الملخص التنفيذي
لم تكن “ثالثة” محاولات تلزيم قطاع البريد في لبنان “ثابتة” كما منّت وزارة الاتصالات نفسها واشتهت. فكالعادة، تقدمت جهة وحيدة إلى المزايدة، تمثلت في تحالف “Merit invest – Colis Privé” التابع لشركة CMA CGM. فأحبط ديوان المحاسبة المحاولة الثالثة بسبب تفصيل دفتر الشروط على قياس عارض واحد وتقصير مهلة الإعلان عن المناقصة إلى الحد الأدنى، حيث حددت بـ 3 أسابيع بدل ١٢ أسبوعاً للصفقات المعقدة و٦ أسابيع للصفقات الأقل تعقيدا. هكذا عُلِّق قطاع البريد من جديد وإلى أمد بعيد بين “حجري رحى” شركة “ليبان بوست” المنتهي عقدها في حزيران الفائت، مع ما تحمله التجربة من مخالفات جوهرية، وبين “العارض الوحيد”. وكانت شركتا Trust trading وغانا بوست قد اعترضتا على المزايدة وأبدتا اهتمامهما بالتقدم بعروض منافسة.
وأمام الاستعصاء عن تلزيم قطاع يُعَدّ من أشدّ القطاعات حيوية بالنسبة للاقتصاد اللبناني، نسأل: إلى متى سيستمر “تكرار الشيء نفسه عدة مرات وتوقع نتائج مختلفة”؟ فالمشكلة لا تنحصر في وضع دفتر شروط مفصل لا يراعي مصلحة الدولة فحسب، وإنما في عدم تشجيع الشركات الأجنبية أو المحلية على التقدم بعروض فيما يتعلق بتشغيل مؤسسات الدولة.
إذاً، ما الحل؟
يتمثل الحل الأنسب في إلغاء احتكار قطاع البريد وفتحه للمنافسة أمام القطاع الخاص بشروط ميسرة وبعيدا عن الصفقات والمحسوبيات. فلتأت شركات محلية ودولية للعمل بالبريد بقدر ما تسمح السوق بذلك. ولا يؤدي تنافس بعضها مع بعض إلى خفض التكلفة على المواطنين فحسب، بل تتحقق كذلك مصلحتهم في الحصول على خدمة فعالة ومتطورة. وتحقّق علاقة “الرابح رابح” هذه في الوقت نفسه مصلحة الدولة وتزيد من إيراداتها المحصلة من الضرائب والرسوم وتخففها من أكلاف الإنتاج والتشغيل. وبهذه الطريقة، يربح الجميع وينتصر الاقتصاد. أما الإصرار على إدارة الدولة للقطاعات وتلزيمها بـ “احتكاراتها” لشركات تأخذ أكثر مما تعطي، فسيكون نصيبه الفشل مهما كانت البنية القانونية سليمة.
ثلاث مزايدات فاشلة لتلزيم قطاع البريد في لبنان لشركة واحدة
من جديد تسقط مزايدة تلزيم القطاع البريدي في لبنان هذه المرة بموجب قرار ديوان المحاسبة في إطار رقابته الإدارية المسبقة رقم ١٠٩ تاريخ ٢٣-٠٨ -٢٠٢٣.
وتُعتبَر المزايدة التي أسقطها ديوان المحاسبة سندا لتقارير هيئة الشراء العام ذات الصلة هي المزايدة الثالثة التي أجرتها وزارة الاتصالات بعد أن فشل تلزيمان سابقان، الأول أُعلِن بتاريخ 24/10/2022 وحددت جلسة فتح العروض الخاصة به بتاريخ 16/2/2023 دون أن يتقدم أي عارض، والثاني أُعلِن عنه عقب ذلك لمدة خمسة أسابيع حيث قُدّم عرض واحد قبلته وزارة الاتصالات وأوصت هيئة الشراء العام برفضه لعدم انطباقه على أحكام دفتر الشروط الخاص بالصفقة وافتقار العقد الناتج عنه إلى التوازن المالي.
إبراز المخالفات التي استند إليها ديوان المحاسبة لعدم موافقته على التلزيم المعروض عليه
- عدم إجراء تقييم حالي وتقييم مستقبلي لإنتاجية القطاع ليصار إلى تحديد بدل الاستثمار، إلى جانب عدم إعداد دراسة واضحة تظهر نتائج القطاع من أرباح أو خسائر لتحديد مخطط تقاسم الإيرادات ما بين الدولة اللبنانية والمشغل.
- عدم التقيد بأحكام المادة ١٢ من قانون الشراء العام التي، وَإِن حددت مهلة الإعلان بـ ٢١ يوما على الأقل، إلا أنها ربطت ذلك بطبيعة موضوع الصفقة وتعقيداته، فاعتبر مهلة الخمسة أسابيع غير كافية لتحضير العروض، لا سيما بالنسبة إلى عارض أجنبي، وذلك في ضوء مدة العقد المحددة بـ ٩ سنوات والمهمات المطلوبة من العارضين، ومنها على سبيل المثال لا الحصر تقديم دراسة جدوى وإثبات الكفاءة وامتلاك الموارد وتضمين العرض خطط عمل تشمل الهيكلية والتنظيم والوضع الاقتصادي والمالي ونطاق الخدمات والمنتجات البريدية وسجلّات الدعاوى القضائية والتحكيم وتقديم أدلّة تُثبِت امتثال العارض لشروط التأهيل المذكورة وإثبات الكفاءة الفنية وتقديم خطة لتطوير السوق والمبيعات وتطوير خدمة الزبائن، إلى جانب تطوير البرمجيات وتقديم خطة للعمل وزيارة العديد من المواقع المنتشرة على الأراضي اللبنانية. وقد استشهد ديوان المحاسبة بالمبادئ التوجيهية للبنك الدولي، والتي تعتبر أن مدة الإعلان ينبغي ألّا تقل عن ١٢ أسبوعاً للصفقات المعقدة و٦ أسابيع للصفقات الأقل تعقيدا، وبالمبادئ التوجيهية الصادرة عن منظمة التعاون والتنمية OECD التي تعتبر تحديد مواعيد تسليم غير واقعية ممارساتٍ تعسفية، كما بالمبادئ التوجيهية للمفوضية الأوروبية التي تَعتبِر من أهم شروط تكافؤ الفرص بين مقدمي العروض تحديد مهلة معقولة لتحضير العروض وحددت مهل دنيا وقصوى لذلك. وقد خلص ديوان المحاسبة إلى نتيجة أن تقديم عرض جدي كان يستدعي وقتا أطول بكثير وأنّ قصر المدة كان امتيازاً بحدّ ذاته وأنّ الدليل على ذلك اعتراض شركتي Trust trading وغانا بوست.
- وقد أكد ديوان المحاسبة في قراره على أن قبول العرض الوحيد من قبل لجنة التلزيم في وزارة الاتصالات لم يكن في موقعه القانوني الصحيح لعدم توفر الشروط المجتمعة المنصوص عليها في الفقرة الرابعة من المادة ٢٥ من قانون الشراء العام، فاعتبر أن المبدأ هو إلغاء الشراء في حالة العرض الوحيد ولا يمكن الشذوذ عنه إلا إذا توفرت الشروط التالية مجتمعة:
- الشرط الأول: وهو أن تكون مبادئ القانون وأحكامه مطبقة (الإعلان، إجراءات الشراء، تسهيل شروط تقديم العرض للعارض الوحيد). وقد اعتبر ديوان المحاسبة هذا الشرط غير متوفر لتعديل دفتر الشروط ليطابق عرض الشركة الفائزة ولاختصار مهلة الإعلان بحيث لم تتمكن سوى الشركة الفائزة من تقديم عرضها.
- الشرط الثاني: وهو أنه ولمساس الحاجة، فقد اعتبر الديوان ألّا وجود لعامل طارئ أو ملح ولا خطر داهم، وأن مدة العقد المحددة بـ ٩ سنوات تتعارض مع ذلك.
- وقد اعتبر ديوان المحاسبة في قراره أن استخدام موظفي البريد من قبل المشغل يتناقض مع تصريح النزاهة ونموذج التأهيل، كما استند إلى وجود بنود متناقضة وغير واضحة في دفتر الشروط الخاص بالصفقة.
فتح القطاع وضمان المنافسة الشفافة والعادلة هما الحل
ماذا بعد ثلاث مزايدات فاشلة لتلزيم قطاع البريد في لبنان لشركة واحدة؟! هل نعاود الكرة من جديد ونطلق مزايدة جديدة وننتظر، علما أن العقد الحالي مع ليبان بوست انتهى غير مأسوف عليه بتاريخ ٣١-٠٥-٢٠٢٣ بعد أن أرهق الخزينة وحرمها من مداخيل كانت تحصل عليها يوم كان القطاع في إدارتها مباشرة؟
ألم يحن الوقت للتفكير في حلول أخرى، لا سيما أن التلزيم الحالي الفاشل ثلاث مرات متحور متطور من تلزيم ليبان بوست الفاشل على مدى عشرات السنين؟ بالطبع لا نطالب بإعادة القطاع في وضع الإدارة الحالية المهترئ إلى الدولة اللبنانية، بل نفكر في تجربة جديدة لا ترهق الدولة ولا تُخسِرها قرشا واحدا، نطرح التوجه إلى القطاع الخاص وتحرير قطاع البريد نهائيا من الحصرية والتبعية المباشرة للدولة اللبنانية والسير به نحو المنافسة من ضمن العملية التي تحكمها بطبيعة الحال قواعد السوق في القطاع الخاص في ظل رقابة الدولة على جودة الخدمة المؤداة.
ويكون ذلك من خلال إقرار قانون في مجلس النواب يجيز إعطاء تراخيص لعدة شركات تتنافس فيما بينها للقيام بالخدمات البريدية وتتيح للمواطن الخيار في التعامل مع الشركة التي يريدها. وفي مطلق الأحوال، ينبغي تكوين سوق بريدية تنافسية تخفف العبء المالي عن المواطن في هذه الظروف المالية الصعبة، فينخفض سعر الخدمة وترتفع جودتها وترتفع حصة الدولة من إيرادات البريد لأن الشركات ستتنافس على السعر الأدنى التي ستقدمه للمواطن لتحفيزه على التعامل معها. وباختصار، فقد بتنا بحاجة ملحة إلى الخروج بحلول جديدة، لا السير وراء حلول تشكل محورا متطورا من حلول أدت إلى إفلاس البلاد مثل حل ليبان بوست والمزايدات المتحورة عنها.
فريق المعهد اللبناني لدراسات السوق