تناقش #اللجان النيابية المشتركة اليوم تقرير اللجنة الفرعية المنبثقة عنها، المتعلق بتحويل نظام #تعويض نهاية الخدمة في الضمان الاجتماعي، إلى نظام للتقاعد والعجز والوفاة. هذا المشروع الذي قدّم الى المجلس النيابي في عام 2004 لا يزال يقبع في أدراج “الانتظار” حتى يومنا هذا. ينفض عنه النواب غبار النسيان والتأجيل من حين الى آخر بحجج التعديل والدرس والجدوى الاقتصادية والاجتماعية وغيرها من متطلبات الدقة في التشريع، ثم يعاد مجدداً الى أدراج العتمة والإهمال مراراً وتكراراً، وهو على هذه الحال منذ عقدين ونيف “بيروح وبيجي”.
اليوم، وبالرغم من التعديلات التي طرأت عليه، لا تزال الشكوك تثار حيال إمكان النجاح في إقرار مثل هذا النظام #التقاعدي، خصوصاً أن مجمل الأوضاع الاقتصادية، والظروف المالية والنقدية المحيطة بالموضوع، والمتغيرات التي شهدتها البلاد غير ملائمة لكي تنخرط الدولة في إنجاز هذا المشروع بحالته الراهنة. فما المعطيات والعوائق الأساسية التي تواجه إقرار مشروع التقاعد المطروح على اللجان النيابية المشتركة؟
ثمة أحكام في مشروع القانون من شأنها إفساد التوازن المالي للنظام، ومن الامثلة على ذلك، ما قضت به المادة 50-6 من المشروع بأن تدون في الحساب الفردي للمضمون الاشتراكات المسددة وتلك غير المسددة، على نحو يضخم حقوق المضمون بدون تغطية مالية خاصة، فيما الاشتراكات غير المسدّدة تجري إعادة فهرستها سنوياً أي زيادتها بنسبة زيادة متوسط الأجور. وبهذا يصبح الحساب الفردي الافتراضي حساباً وهمياً، وكأن المضمون الذي يسدد الاشتراكات لتمويل معاشات الجيل المتقاعد، يتلقى مقابل ذلك، وعوداً، بعضها أوهام، بأنه سيتقاضى عند تقاعده معاشه بالطريقة عينها. ومن المهم الاشارة الى أن “حدوث عجز مالي في نظام التقاعد، سيؤدي إلى خفض في المعاشات التقاعدية أو إلى زيادة في معدل الاشتراكات، وكل ذلك سينعكس سلباً على المضمونين، وأصحاب العمل، والاقتصاد ككل”، وفق ما يقول عضو مجلس إدارة الضمان رفيق سلامة الذي قدم وزميله أنطوان واكيم تفصيلاً عن العوائق الإدارية والمالية للضمان خصوصاً والاقتصادية عموماً إضافة الى التغيرات الديموغرافية في #لبنان.
بالنسبة للوضع المالي لصندوق تعويض نهاية الخدمة، ومرحلة الانتقال – وعدم تضمين المشروع الجديد حلولاً لمصلحة تبخر الحقوق المكتسبة للمضمونين في نظام نهاية الخدمة، يشير سلامة وواكيم الى أن الاحتياطات المتراكمة في هذا الصندوق كانت تشكل عنصراً مساعداً للانتقال إلى النظام التقاعدي، باعتبارها توفر له كتلة نقدية تنتج عوائد استثمار كبيرة. غير أن تلك الأموال تبخرت قيمتها بدليل أن مدخرات صندوق تعويض نهاية الخدمة بلغت قبل مرحلة التضخم نحو 16 ألف مليار ليرة أي ما كان يساوي في حينه 10 مليارات و600 مليون دولار، وأصبحت تساوي حالياً 160 مليون دولار، إضافة إلى حساب مجمّد بالدولار يبلغ 369 مليون دولار بمجموع يبلغ نحو 529 مليون دولار. هذه المبالغ موزعة بين سندات خزينة الدولة وإيداعات مجمدة في المصارف، ودين على صندوق ضمان المرض والأمومة، وجميع هذه الجهات غير قادرة على سداد دينها نظراً لتعثرها.
وقد لحظ مشروع القانون، في المرحلة الانتقالية، إلزامية الخضوع لأحكامه لبعض الفئات العمرية من المضمونين الحاليين، كما لحظ إمكان الخضوع الاختياري لفئات عمرية أخرى، على أن ينتقل هؤلاء الأفراد إلى نظام التقاعد مع حقوقهم التقاعدية المتجمعة في حساباتهم الفردية التي كانت ممولة بالكامل. ولكن السؤال بعد تلاشي قيمة مدخراتهم: كيف سيعالج مشروع القانون هذه المشكلة المستجدة؟ وكيف سيعيد تكوين حقوقهم السابقة، وهل سيفيدون جميعاً من الحد الأدنى للمعاش في النظام الجديد، وماذا ستكون كلفة ذلك على توازن النظام؟
إدارياً، أسندت إدارة النظام الجديد إلى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وقد ثبت فشله في إدارة نظام تعويض نهاية الخدمة البسيط والبدائي، وفق سلامة وواكيم. فالبطاقات التي تشتمل على الحقوق والحسابات الفردية للمضمونين لا تزال حتى الآن غير ميومة، على نحو جعل تصفية تعويضات نهاية الخدمة تستند إلى تصاريح أصحاب العمل التي تحدد مقدار الأجور المدفوعة لأجرائهم ومقدار الاشتراكات المترتبة عليها. وهذا ما أكدته دراسة مكتب العمل الدولي المتعلقة بالتقييم الاكتواري لنظام التقاعد والحماية الاجتماعية، وللنظام المقترح من المكتب تحت تسمية “نظام المنافع المحددة ذات المخاطر المخفضة” في عام 2018 حيث ذكرت الدراسة في الصفحة 6: “إن وجود بيانات كافية وموثوق بها، أمر حاسم لإنتاج التقييم الاكتواري، كان لا بد من سد بعض الفجوات في البيانات بالافتراضات. على سبيل المثال، لم تكن الرواتب التاريخية لأعضاء الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي متاحة، وكذلك الأمر بالنسبة لاستحقاقات أعضاء الصندوق بموجب نظام تعويض نهاية الخدمة الحالي”. ويسأل سلامة وواكيم: هل سيتمكن “هذا الصندوق” من أن يدير نظاماً شديد التعقيد كمثل نظام الحسابات الفردية الافتراضية وما يتطلبه من فهرسة، أو تصحيح الحسابات الافتراضية سنوياً، وكذلك إعادة تقييم الرواتب والمعاشات وفق مؤشرات معينة؟
الى ذلك، تتأثر طريقة التمويل بالتوزيع خصوصاً بالبنية الديموغرافية للسكان، ونسبة عدد الناشطين اقتصادياً إلى عدد المتقاعدين، إذ تظهر دراسة مكتب العمل الدولي بوضوح أن السكان اللبنانيين يتجهون بسرعة نحو التعمّر والتشيخ، فيعيش الفرد بعد تقاعده فترة طويلة من الزمن يستفيد فيها من المعاش ويتكفل 1.5 ناشط بتمويل معاش شخص متقاعد، بما يثقل على تمويل النظام أو يؤدي إلى انخفاض في المعاشات. وهذا الوضع لا يتلاءم مع طريقة التمويل بالتوزيع.
توقعت الدراسة معدلاً للتضخم يساوي 2.5% ابتداءً من سنة 2026 ويبقى عند هذا المستوى على المدى الطويل، وأن يبلغ الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي نمواً نسبته 1.6% في عام 2017، ويصل إلى 2.6% في عام 2117.
هذه التوقعات الاقتصادية لم تعد في مكانها، وفق ما يقول سلامة وواكيم، وتالياً لا يجوز أن نبني عليها نظاماً للتقاعد يستند في بنائه على النمو الاقتصادي بصورة أساسية، ولا سيما أن الاقتصاد أصبح في حالة انكماش، والناتج المحلي تقلص إلى ما دون النصف.
وبناءً على ذلك يكون الوضع الاقتصادي هذا غير ملائم، في الوقت الحاضر، لإقرار المشروع المعروض.
بالنسبة لجهة تأمين التوازن المالي اعتمد هذا النظام أسلوب “الحسابات الفردية الافتراضية المتراكمة” المنقول عن النموذج السويدي الذي يلحظ أن الحقوق التقاعديّة للعامل الناشط تتكون من قيمة الاشتراكات التي يسدّدها مع صاحب عمله، وتدوّن اسمياً في حسابه الفردي الافتراضي وتزاد سنوياً وفقاً لمؤشر تطور الأجور. أما القيمة النقدية لهذه الاشتراكات، فإنها تذهب في الوقت عينه لتمويل المعاشات للجيل المتقاعد. فهي إذن تعمل، من جهة، بطريقة الاشتراكات المحددة والرسملة الافتراضية لتحديد مقدار المعاشات المستحقة عند التقاعد، وتعمل من جهة ثانية، بطريقة التوزيع لتمويل المعاشات الجارية، وفقاً لمبدأ التضامن بين الأجيال، إذ يقوم الجيل الناشط بتمويل معاشات الجيل المتقاعد.
هذا الأسلوب يفرض وجود توازن مالي دائم بحيث تكون المعاشات التي يتقاضاها المضمون في فترة تقاعده، مساوية للاشتراكات التي راكمها في فترة نشاطه. وهذا الأمر يستدعي إطالة فترة العمل، كما فترة دفع الاشتراك، وتقصير فترة التقاعد، وتالياً الإفادة من المعاش، كما يستدعي تحاشي الأحكام القانونية التي تخلّ بهذا التوازن. ومن الأمثلة التي يوردها سلامة وواكيم أنّ المادة 50-2 حددت شروط استحقاق المعاش التقاعدي بتوفر شرطين: بلوغ المضمون السن القانونية المحدّدة بـ64 سنة مكتملة، وبلوغ مدة اشتراك المضمون 15 سنة على الأقل، هذا إضافة إلى التقاعد المبكر الذي يمكن حصوله لأسباب معينة قبل بلوغ سن التقاعد بـ4 أو 6 سنوات. ولكن مدة الاشتراك القصيرة، وسن التقاعد القانونية المنخفضة، لا تتناسبان مع شروط تأمين التوازن المالي في هذا النظام القائم على الاشتركات المحددة.
والمادة 50-6 أدخلت ضمن الحساب الفردي الافتراضي الاشتراكات الواجب دفعها وغير المسددة، بما يضخم الحقوق التقاعدية دون تغطية ويخلّ بالتوازن بين الاشتراكات والتقديمات كما يشجّع المكلفين بالاشتراكات على الانكفاء عن تسديد التزاماتهم ما دام عدم التسديد لا يؤثر على حساب المعاش التقاعدي فلا يبدي المضمون اعتراضه وتنتشر عمليات الغشّ التي تهدم التوازن المالي للنظام.
أحدث المشروع جهازاً إضافياً دائماً ضمن أجهزة الصندوق الثلاثة يتولى عمليات استثمار أموال الصندوق تترأسه لجنة استثمار ترتبط بمجلس إدارة الصندوق، وتتمتع بالاستقلال المالي والإداري. ويورد سلامة وواكيم ملاحظتين:
– نظام التقاعد الجديد يعتمد طريقة التمويل بالتوزيع، فالاشتراكات التي تسدَّد عن المضمونين تدفع، في الوقت نفسه، للمتقاعدين وليس فيه رساميل متراكمة، إلا الوفر في السنوات الأولى من عمر النظام.
– الاحتياطات الضخمة التي كان من المتوقع نقلها من صندوق تعويض نهاية الخدمة إلى صندوق التقاعد تلاشت ولم يبق منها ما يحتاج إلى مثل هذا الجهاز الاستثماري الذي يزيد من الكلفة الإدارية ولا حاجة له.