تسير الدولة برجليها إلى “المهوار”… والشغور في حاكمية مصرف لبنان، هو القعر المؤدي إليه المهوار. في لبنان قانون يُعرف بـ”قانون النقد والتسليف”، يحدد في مندرجاته دوراً لنائب الحاكم الأول في خلافة حاكم البنك المركزي وفق المادة 25 التي تنص: “بحال شغور منصب الحاكم، يتولى نائب الحاكم الاول مهام الحاكم ريثما يعيّن حاكم جديد”. وإذا رفض النائب الأول تولي المسؤولية، يتولاها الحاكم الثاني حكماً”، فوفق أحكام المادة 27 أيضاً التي تنص: “بحال غياب الحاكم أو تعذر وجوده يحل محله نائب الحاكم الاول وبحال التعذر على الاول، فنائب الحاكم الثاني وذلك وفقاً للشروط التي يحددها الحاكم. وبإمكان الحاكم أن يفوض مجمل صلاحياته الى من حل محله”.
ما المشكلة؟ ولم الذعر من الشغور؟ ما دام القانون يحمي المؤسسة ويؤمن ديمومة قيادتها. الجواب ربما في ثقافة المحاصصة التي حكمت (ولا تزال) سلوك المسؤولين في الدولة، التي عينت 4 نواب للحاكم غير قادرين على اتخاذ أي قرار أو موقف بمعزل عن مرجعياتهم الحزبية أو السياسية، وحتى المذهبية، وهم تالياً ما عادوا في خدمة أهداف وظيفتهم ومسؤوليتهم، بل في انصياع تام لمصالح وإرادة من عيّنهم في مناصبهم.
لبنان يغرق، والليرة تسبقه إلى الأعماق، والحل هو في تحمّل نائبَي الحاكم الاول وسيم منصوري والثاني بشير يقظان مسؤولياتهما، أو المباشرة فوراً بتفسير أهداف تعديل المادة 17 تاريخ 1 نيسان 1985، من قانون النقد والتسليف، الذي أضاف الى نواب الحاكم الثلاثة، نائباً رابعاً، وأعاد توزيع التراتبية بينهم “عرفاً” (الأول شيعي، الثاني درزي، الثالث سني، الرابع أرمني). هذه الخطوة في دلالاتها القانونية، تؤكد أن المشرع حينها، بدفع من المسؤولين السياسيين، سعى إلى بناء أوسع مشاركة وطنية في قرارات مصرف لبنان، وأيضاً، في تولي المسؤولية فيه. وبهذا يجتهد خبير قانوني ودستوري ويطالب بضرورة المسارعة إلى تفسير التعديل المذكور للمادة 17، لتشمل مفاعيله المادة 27، بما يسمح لنائبي الحاكم، الثالث والرابع أيضاً، أسوة بالأول والثاني، بتولي صلاحيات الحاكم، وعدم التذرع بغياب وجود نص قانوني يرعى ذلك، بسبب إهمال المشرعين تعديل المادة 27 أيضاً، إذ تحفل النصوص القانونية وأحياناً الدستورية، بتعديلات غير مكتملة، تعود لإهمال غير مقصود من المشرعين، حين يسعون لتعديل مادة معينة، ويغفلون شمول التعديل، موادّ أو بنوداً أخرى، في متن القانون ذي صلة.
المستشار في اتحاد المصارف العربية بهيج الخطيب الذي بدأ مهامه في مصرف لبنان في أول أيام العمل الفعلي للمصرف حتى عام 2006، شغل مراكز عدة في مصرف لبنان آخرها مدير التدريب في المصرف، وعاين كل حكام مصرف لبنان بمن فيهم سلامة، يؤكد لـ”النهار” أنه عندما تم تأسيس مصرف لبنان بقانون النقد والتسليف الصادر في 1 آب 1963، نص على منصب الحاكم ونائبيه (3 نواب)، حينها عين النائب الاول جوزف أوغوليان (أرمني)، والثاني المهندس شفيق محرم (سني)، والنائب الثالث الدكتور عبد الامير بدر الدين (شيعي). ولكن من بعد انتفاضة 6 شباط عام 1984 وتغير موازين القوى السياسية ميدانياً، تم تعديل قانون النقد والتسليف ليضاف نائب رابع الى نواب الحاكم، وأعيد ترتيبهم (عرفاً وليس قانوناً) ليصبح النائب الاول شيعياً، والثاني درزياً، والثالث سنياً والرابع أرمنياً”.
وفيما يؤكد الخطيب أن “المادة 27 من قانون النقد والتسليف واضحة وصريحة وتنص على أن من يتسلم مهام الحاكم لأي سبب من الاسباب اثنان هما النائب الاول وفق الصلاحيات التي يحددها له الحاكم، والنائب الثاني في حال تعذر قيام النائب الاول بمهامه، فقط.
ولكن ثمة من يؤكد أن في إمكان النائب الثالث للحاكم (سليم شاهين) تسلم مهام الحاكمية في حال استقالة النائب الاول والنائب الثاني بغية تفادي الشغور في مركز الحاكمية، بيد أن الخطيب الذي يوضح أن في إمكان الحاكم أن يفوّض مجمل صلاحياته الى من يحل محله، يشير الى أن هذا الامر ينطبق على نائبيه الاول والثاني فقط، وتالياً لا يمكن للنائب الثالث تسلم مهام الحاكم لأن قانون النقد والتسليف واضح في هذا الصدد وحصر مهام التسلم بنائبيه الاول ثم الثاني.
أما المحامية الدكتورة جوديت التيني، فترى أن من الضروري الرجوع الى القانون والارتكار على نصوصه، فالمادة 25 من قانون النقد والتسليف تولي، بحال شغور منصب الحاكم، نائب الحاكم الاول مهام الحاكم ريثما يعين حاكم جديد. وهذا نص واضح ولا يحمل التأويل. كما أن المادة 27 من القانون نفسه تنص على أنه بحال غياب الحاكم أو تعذر وجوده يحل محله نائب الحاكم الاول، وتضيف المادة أنه في حال التعذر على الاول فنائب الحاكم الثاني يتولى المهام. وتالياً إذا شغر منصب الحاكم يحل محله نائبه الأول، وإذا تعذر على النائب الاول (القانون لم يحدد مفهوم التعذر وتالياً فهو يحمل تفسيراً واسعاً) تطبق عندها المادة 27 ليتولى النائب الثاني المهام. وقد تستدعي الظروف الطارئة القائمة البحث في إمكان تطبيق حالة التعذر التي تلحظها المادة 27 على نائب الحاكم الثاني فيستلم النائب الثالث. ويستند ذلك الى أن المشرع عندما وضع قانون النقد والتسليف سنة 1963 وعدله سنة 1985 لم يتطرق الى احتمالات التعطيل والتلكؤ التي قد تطرأ، وإلا لطبقت المادة 27 حتماً حالة التعذر وأحكامها على سائر نواب الحاكم بالقياس مع النائب الاول والثاني.
سيناريو اللحظة الاخيرة؟
بما أن رياض سلامة حسم أنه في 31 الجاري سيكون آخر يوم له في مصرف لبنان، فإنه وفق قانون النقد والتسليف، سيكون وسيم منصوري حاكماً لمصرف لبنان في 1 آب 2023 بصلاحيات الحاكم الذي يبدو أنه متحمس للتسلم ولكن مرجعيته السياسية ترفض ذلك، ولكن وفق الهندسات السياسية التي غالباً ما تولد في اللحظات الاخيرة، ستطلب مكونات الطبقة السياسية من نواب الحاكم التقدم من مجلس الوزراء باستقالة جماعية، وبعدها يُكلّف نواب الحاكم الأربعة مجتمعين بإدارة هذا المرفق العام. ووفق هذا السيناريو، يتم إبراء النائب الأول للحاكم من هذا الفائض من المسؤولية الذي يحمله الحاكم، فيما توقيت الاستقالة، إن كانت ستحدث، مهم جداً. وبهذا لن يكون هناك تكليف شخصية جديدة إما وسيم منصوري بصلاحيات كاملة وفق قانون النقد والتسليف، أو تيسير وتسيير أعمال وفق هندسة سياسية يكلف بها النواب الأربعة إذا تقدموا باستقالتهم صباح الأول من آب 2023، أو رياض سلامة إذا تقدم نواب الحاكم الاربعة بالاستقالة قبل 31 تموز 2023.