يشكّل خبر المماطلة في تلزيم نقل المواد الخطرة من منشأتي طرابلس والزهراني صدمة لكلّ من يراقب الأمر عن كثب، وبالأخص لمن لا يثق في التأكيدات الصادرة عن الجهات المسؤولة بأن تلك المواد محفوظة بشكل آمن. فقد تعود إلى ذاكرته مشاهد حريق المرفأ وما أدى إليه. وقد كانت تلك المواد التي انفجرت في المرفأ آنذاك، هي الأخرى، محفوظة بطريقة آمنة برأي المعنيين، فما كان إلا أن انفجرت مخلفة أقوى انفجار غير نووي على مستوى العالم. وإذ يؤكد المعنيون أن المواد التي أعطتها وزارة الطاقة وصف الخطرة محفوظة بشكل آمن، قائم على مستوى معين من المسافات التي تفصل بينها، إلا أنّ الأمر يصبح خطيرا جدا إذا حصل حادث مصطنع، أو عدوان خارجي استهدف المنشآت، وعندها تقع الكارثة. ولكن دون هذا الحادث الاستثنائي، يبدو الوضع على درجة خطورة منخفضة، ولعل هذا ما سمح لوزارة الطاقة في المماطلة بإجراء مناقصة جديّة ووضع دفتر شروط مناسب.
وتجدر الإشارة إلى أن منشآت النفط في طرابلس تحوي غرف تخزين بداخلها مواد نفطية قابلة للاشتعال، وزيوت مخزنة داخل براميل مهترئة، ومواد عازلة من مادة الـ Asbestos، ومادة Ammonium Bifluoride شديدة السمية، وغرفة لتوليد الطاقة بداخلها مانع للتأكل ( Corrosion Inhibitor هذه المادة مسرطنة)، ومساحة مخزنة بداخلها مادة الـ Copper Chloride ومساحة بداخلها زيت النفط، غير كميات من المواد الخطرة تقدر بحوالي / ۸۰۰/ كلغ موضوعة قرب خزانات النفط داخل أسطوانات وصناديق خشبية كانت تستخدم في عمليات تكرير النفط الخام.
أما منشآت النفط في الزهراني فتحتوي على براميل بداخلها زيوت وحالتها مهترئة / ٢٠٠/ ليتر، مع غرفة تخزين تحتوي على / ٢٥٠ / مستوعباً من المواد الخطرة، بالإضافة إلى مادة الاسبستوس والزئبق المتفجر والسام، وثنائي كرومات البوتاسيوم وهي مادة سامة جدا ومسرطنة، ومادة كلوريد الكادميوم، وبراميل قطرون.
ما زالت وزارة الطاقة والمياه تغفو على فراش وثير من الطمأنينة إلى حين الوصول إلى تلزيم مناسب يبدو وكأنه مهيأ سلفاً على قياس عارض منتظر قدومه فُرِشت الأرض أمامه بسجاد التعديل المناسب على دفتر الشروط. ومن المعلوم أن الصفقات المشبوهة عديدة ومتنوّعة، إلا أن أخطرها تلك التي قد تعرّض صحة المواطنين وسلامتهم للخطر. ومن الواضح أن قانون الشراء العام، الذي أُقر عام 2021، والذي نقل هيئات التلزيم إلى الوزارات فتح كوة تسمح للوزراء بالتأثير على نتائج المناقصة، بدل تعزيز المنافسة التي ينبغي أن يضمنها القانون ويحميها في الصفقات. ولا يمكن تحقيق المنفعة المجتمعية دون فتح الصفقات العمومية على أوسع تنافس بين شركات عارضة تضمن تقديم أفضل الخدمات بأقل الأسعار، إلى جانب المحاسبة والإقصاء في حال فشل مقدم الخدمات فيما عليه القيام به. ولا يكون ذلك إلا من خلال دفاتر شروط مفتوحة، وغير مفصلة على قياس شركات محددة أو مصالح ضيقة، إضافةً إلى إطالة مدة الإعلان وتحفيز الشركات المحلية والعالمية على التقدم للمنافسة في الصفقات. أمّا في بلاد “المحاصصات” و”المحسوبيات”، فتسقط جميع الحدود أمام المصلحة الخاصة، فتُنتهك القوانين وتُجمَّد البنود بالمراوغة وتُبتكَر الثغرات. وتقوم الوزارة بوضع دفتر شروط متحرك تعدله من مناقصة الى أخرى ليصبح على قياس عريس الصفقة المنتظر. لذا نقترح تعديل القانون وإخراج التلزيمات من يد الوزراء وإعادتها إلى هيئة الشراء العام (إدارة المناقصات سابقاً).
وزارة الطاقة والمياه تخالف قانون الشراء العام
بتاريخ ٢٢/١٢/٢٠٢٢، تعاقدت وزارة الطاقة والمياه مع إحدى الشركات لترحيل المواد الخطرة من منشآت النفط في طرابلس والزهراني، غير أن الشركة الملتزمة ووفقا لمقولة الوزارة «لم تؤد موجباتها التعاقدية لناحية تقديم ضمان حسن التنفيذ». وعليه، فقد بادرت الجهة الشارية إلى فسخ العقد مع هذه الشركة بعد “إمهالها حوالي السنة والنصف من قبلها لتأمين الضمانة المذكورة، دون جدوى”. وإذ تبين لهيئة الشراء العام أن الوزارة قد خالفت أحكام النكول والإقصاء المنصوص عليها في قانون الشراء العام، ولا سيما المادتين ٣٣ و٤٠ منه، فقد طلبت الهيئة إلى الوزارة التراجع عن قرارها الخاطئ الذي لم يعرض على الموافقة المسبقة للهيئة خلافا للأصول القانونية. وقد أكدت هيئة الشراء العام على ما يلي:
- لا يمكن لأي كان أن يعتد بأي رأي للهيئة غير ما يصدر عنها خطيا بناءً للطلب سندا لأحكام المادة ٧٦ من قانون الشراء العام.
- إن لجان التلزيم مستقلة في عملها عن الجهة الشارية وفقا لأحكام المادة ١٠٠، البند ثانيا، الفقرة الأولى من قانون الشراء العام.
- إن لجان التلزيم هي التي تتولى حصرا عمليات التقييم والتأهيل وصولا إلى اختيار العرض الأنسب (المادة ١٠٠، البند ثانيا، فقرة ١ من قانون الشراء العام).
- إن الإرشادات والتوضيحات التي تصدرها هيئة الشراء العام تتعلق بمعايير وطرق ومقاربات للتقييم يعود للجان التلزيم تطبيقها على العروض المقدمة واستخلاص النتائج من هذا التطبيق.
ويتبين لدى مراجعة الموقع الإلكتروني لهيئة الشراء العام أن وزارة الطاقة والمياه – المديرية العامة للنفط قد أعادت الإعلان عن المناقصة المذكورة لست مرات – وذلك وفقاً لما يلي:
المرة الأولى: عدم تقدم عارضين
أعادت الجهة الشارية الإعلان عن هذه المناقصة للمرة الأولى بتاريخ ١٥/١/٢٠٢٤، وحددت الموعد النهائي لتقديم العروض في ٥ /٢/٢٠٢٤. ولم يتم التلزيم نتيجة عدم تقدم أي عارض للمناقصة.
المرة الثانية: إلغاء الشراء لعدم مراعاة مهلة الإعلان
أعادت الجهة الشارية الإعلان عن هذه المناقصة للمرة الثانية بتاريخ ١٦/٢/٢٠٢٤، وحددت الموعد النهائي لتقديم العروض في ٢٦ /٢/٢٠٢٤. إلا أنها ألغت الشراء بناء على طلب هيئة الشراء العام بالنظر لعدم مراعاة مهلة الإعلان المنصوص عليها في قانون الشراء العام. وقد نص كتاب هيئة الشراء العام على ما يلي: «على أنه في حال كانت المواد موضوع هذه المناقصة من الخطورة بمكان بحيث لا يحتمل ترحيلها التأجيل، وذلك على مسؤولية الجهة الشارية دون سواها وفقاً لقواعد الاختصاص، فإنه بإمكان هذه الجهة اللجوء إلى التعاقد المباشر وفقاً لأحكام المادة ٤٦ من قانون الشراء العام….». كما تبين وجود إجراءات فسخ عقد وإقصاء دون اتباع المسار القانوني الصحيح.
المرة الثالثة: إلغاء الشراء لخلل في الإجراءات
أعادت الجهة الشارية الإعلان عن هذه المناقصة للمرة الثالثة بتاريخ ٢٦/٢/٢٠٢٤، وحددت الموعد النهائي لتقديم العروض بتاريخ ١٢/٣/٢٠٢٤، ثم ألغت الجهة الشارية الشراء نتيجة للخلل في الإجراءات الذي أشار إليه مندوب الهيئة في جلسة فتح العروض.
المرة الرابعة: عدم تطابق العروض مع دفتر الشروط
إلغاء الشراء لعدم تطابق العروض المقدمة مع مندرجات دفتر الشروط الخاص بالصفقة
أعادت الجهة الشارية الإعلان عن هذه المناقصة للمرة الرابعة بتاريخ ٢٨/٣/٢٠٢٤، وحددت الموعد النهائي لتقديم العروض بتاريخ ٢٣/٤/٢٠٢٤. ويلاحَظ هنا إضافة الجهة الشارية شرط استحصال العارض على الموافقة المبدئية من منشأة التلف النهائي والدولة المستقبلة للمواد الخطرة موضوع المناقصة، خلافاً لدفاتر الشروط السابقة التي كانت تضع موجب الموافقات على عاتق “الملتزم” لا العارض. وقد ألغت الجهة الشارية الشراء نتيجة عدم تطابق العروض المقدمة مع الشروط المدرجة في دفتر الشروط الخاص بالصفقة.
المرة الخامسة: عارض وحيد مؤهل
الملف موضع تدقيق وتقرير من قبل هيئة الشراء العام بناءً على طلب مساندة ومساعدة
أعادت الجهة الشارية الإعلان عن المناقصة للمرة الخامسة بتاريخ ٩/٥/٢٠٢٤، وحددت الموعد النهائي لتقديم العروض بتاريخ ٢٤/٥/٢٠٢٤.
- عدلت الجهة الشارية، بموجب تعديلات نُشِرَت على الموقع الإلكتروني لهيئة الشراء العام، شرط تأسيس الشركة بحيث أصبح “سنتين من تاريخ جلسة التلزيم” بدلاً من ٥ سنوات، كما عدلت لائحة المشاريع المنفذة لتصبح خلال السنتين المنصرمتين بدلاً من الـ ٥ سنوات المنصرمة. وإضافة إلى ذلك، خفضت الجهة الشارية قيمة ضمان حسن التنفيذ للالتزام ليصبح ٥٪ من قيمة العقد بدلاً من ١٠٪ منها.
- تقدم لهذه المناقصة ٣ عارضين استبعدت الجهة الشارية أحدهم «لنقص جوهري في المستندات» وتم إمهال العارضَيْن المتبقِيَيْن لغاية ٣/٦/٢٠٢٤ لاستدراك نواقص في عَرْضَيْهِما.
- بتاريخ ١١/٦/٢٠٢٤، ورد هيئة الشراء العام كتاب وزارة الطاقة والمياه المتضمن ملف المناقصة العمومية لترحيل مواد كيميائية في حرم منشآت النفط في طرابلس والزهراني، طلبت فيه الوزارة المساعدة وإبداء الرأي.
وقد أكدت هيئة الشراء العام أنّ على الجهة الشارية تبرير إدراج الشرط المذكور للمرة الأولى عند إطلاق عملية الشراء الخامسة ومدى تناسب هذا الشرط مع موضوع الشراء ومدى عدم تقليصه للقاعدة التنافسية. وقد خلصت هيئة الشراء العام في تقريرها إلى أن عرضا واحدا من ثلاثة مؤهل بالنظر إلى شروط التأهيل المنصوص عليها في دفتر الشروط الخاص بالصفقة، مستندة إلى الفقرة /٣/ من البند ثانياً من المادة ٢١ من قانون الشراء العام التالي نصها: «لا يمكن طلب إجراء أو السماح بإجراء أيِّ تغيير جوهري في المعلومات المتعلِّقة بالمؤهلات أو بالعرض المقدَّم، بما في ذلك التغييرات الرامية إلى جعل مَن ليس مؤهَّلاً من العارضين مؤهَّلاً أو جعل عرض غير مستوفٍ للمتطلبات مستوفياً لها». وبذلك تكون الجهة الشارية أمام حالة العرض الوحيد المقبول، وحينها يكون التعاقد مع مقدم العرض الوحيد المقبول استثناءً يخرج عن القاعدة العامة ويشترط فيه توفر الشروط المنصوص عليها في الفقرة الرابعة من المادة ٢٥ من قانون الشراء العام مجتمعة، علما أن الفقرة الرابعة من المادة ٢٥ من قانون الشراء العام قد نصت على ما يلي:
«تُلغي الجهة الشارية الشراء و/أو أيّ من إجراءاته في حالة العرض الوحيد المقبول، غير أنه يحقّ لها اتّخاذ قرار معلَّل بالتعاقد مع مقدِّم العرض الوحيد المقبول إذا توافرت الشروط التالية مجتمعة:
- أ- أن تكون مبادئ وأحكام هذا القانون مُطبَّقة وأن لا يكون العرض الوحيد ناتجاً عن شروط حصرية تَضمَّنَها دفتر الشروط الخاص بمشروع الشراء؛
- ب- أن تكون الحاجة أساسية ومُلِحّة والسعر مُنسَجِماً مع دراسة القيمة التقديرية؛
- ج- أن يتضمَّن نَشر قرار الجهة الشارية بقبول العرض الفائز (التلزيم المؤقت) نصّاً صريحاً بِتقدُّم العارض الوحيد المقبول ونيّة التعاقُد معه.»
وقد أكدت الهيئة أن وقائع الملف ومستنداته تدعم كون الحاجة أساسية وملحة، وعليه يكون قرار التعاقد مع مقدم العرض الوحيد المقبول على عاتق الجهة الشارية دون سواها. وهكذا يكون عليها، في حال قررت المضي به، مقاربة مدى انطباق الشروط المشار إليها على الحالة الراهنة وتدوين ذلك مشفعاً بالتعليل والتبرير اللازمين.
- تبرير شرط الموافقة المبدئية المشار إليه في “مسار الملف” من التقرير الحاضر وإثبات أنه لا يعتبر شرطا حصريا أضيف إلى دفتر الشروط الخاص بالصفقة عند الإعلان الأخير عنها وأنه ملتصق بطبيعة موضوع المناقصة وماهيته.
- إثبات كون الحاجة أساسية وملحة بالتقارير التي تم الاطلاع عليها المعدّة من قبل الأجهزة الأمنية .
- تبرير انسجام السعر مع دراسة القيمة التقديرية التي يُفترَض إعدادها قبل الإعلان عن المناقصة.
ومع ذلك، فلعلّ من اللافت أن وزارة الطاقة والمياه – المديرية العامة للنفط- قفزت فوق تقرير هيئة الشراء العام والتقارير التي تثبت خطورة المواد موضوع المناقصة. فقد قررت بتاريخ ٤ تموز ٢٠٢٤ الإعلان عن المناقصة مجدداً على أن تجرى جلسة التلزيم بتاريخ ١٩-٠٧-٢٠٢٤ مع تعديل إضافي بإلغاء تعديل سابق لدفتر الشروط. ونتيجةً لهذا التعديل، يُسمح للمتقدم بعرض غير مطابق للشروط أن يعيد إرسال عرضه ليصبح مطابقاً في الجولة القادمة.
فريق المعهد اللبناني لدراسات السوق