حمل دخول وقف إطلاق النار بين “حزب الله” وإسرائيل حيّز التنفيذ لعدد كبير من سكّان ضاحية بيروت الجنوبية ومنطقتي الجنوب والبقاع شعوراً بالقلق والدخول في المجهول، “بيتنا راح لوين بدنا نرجع”.
كرّرت هذه العبارة على لسان كثيرين ممن سألتهم “النهار” عن خسائرهم جراء هذه الحرب، وعن البدائل التي يحاولون تأمينها، لا سيّما أن فصل الشتاء أطلّ برأسه منذراً بأزمة سكن قد تطال الآلاف.
لم يعد خافياً على أحد أن الحرب الأخيرة المدمّرة خلّفت أضراراً بالغة التكاليف طالت الطرفين، إسرائيل ولبنان، ما بين قتلى وجرحى، ونزوح على جانبي الحدود، ودمار في المباني والبنى التحتية، إضافة إلى تأثيرات اقتصادية بالغة السلبية.
خلال كلمته في القمة العربية الإسلامية، الشهر الفائت، صرّح رئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، بأن خسائر لبنان جرّاء هذه الحرب تُقدّر بنحو 8.5 مليارات دولار، استناداً إلى تقديرات البنك الدولي. وكشف عن أن قطاع الإسكان تكبّد خسائر فادحة، مع تدمير ما يقرب من 100 ألف مسكن بشكل كامل أو جزئيّ، بتكلفة تصل إلى 3.4 مليارات دولار.
أمّا الأمين العام لـ”حزب الله”، الشيخ نعيم قاسم، فقال في كلمة ألقاها إن الحزب سيعمل على تعويض اللبنانيين من أصحاب المنازل المدمّرة كلياً أو جزئياً جراء الحرب. وأشار إلى أنه “خلال شهر تشرين الثاني بدأ صرف هدية مالية تتراوح ما بين 300 إلى 400 دولار لكل عائلة نازحة، وستستمرّ لتشمل العائلات المسجّلة”.
وأوضح قاسم بأن الحزب سيقدّم دعماً مالياً لأصحاب المنازل المدمّرة كلياً، يشمل:
8000 دولار كتعويض عن الأثاث.
6000 دولار كإيجار لمدة سنة للساكنين في بيروت والضاحية.
4000 دولار كإيجار لمدة سنة للساكنين خارج بيروت والضاحية، لافتاً إلى أن معظم هذه المبالغ مقدّمة من إيران.
ودعا قاسم الحكومة اللبنانية إلى رفع الأنقاض ومعالجة البنية التحتية ووضع خطة شاملة لترميم المنازل وإعادة الإعمار. وأكد استعداده للتعاون مع الحكومة، والمساهمة في سدّ أيّ نقص في العطاءات التي تقدمها الدولة، كما وجه نداءً إلى الدول العربية الشقيقة والدول الصديقة للمساهمة في إعادة الإعمار.
“مع بدء الحديث عن اتفاق محتمل لوقف إطلاق النار، بدأت رحلة البحث عن بديل لمنزلنا الذي دمّره القصف الإسرائيلي في منطقة المريجة في ضاحية بيروت الجنوبية. أجرينا اتصالات بعدد من مكاتب تأجير الشقق وكذلك بعدد من الأشخاص الذين عرضوا بعض الشقق على مواقع التواصل”، يقول أحد سكّان الضاحية لـ”النهار”.
لكن أسعار الشقق ودفع 6 أشهر سلفاً، عدا عن أن بعض هذه الشقق لم يكن صالحاً للسكن أصلاً، صعّب المهمّة. “إذا المطلوب 600 و800 دولار وما فوق، و3 و6 أشهر سلفاً، فكيف منعيش؟”.
جملة لخصّت معاناة من خسر منزله ووضعه أمام 3 خيارات، بحسب عدد كبير من سكان الضاحية، فإمّا الرضوخ لاستغلال أصحاب الشقق الذين رفعوا البدلات بحجّة “الطلب في السوق”، وبالتالي السكن موقتاً إلى حين انتهاء أعمال إعادة البناء أو الترميم، وإمّا البقاء في الشارع أو في منازل الأقارب أو المعارف، وإمّا العودة إلى المنازل غير الصالحة للسكن، بالرغم من خطر انهيار المباني.
عن بدلات الإيجار الضخمة، روى أحد سكّان منطقة الكفاءات لـ”النهار” أن شقة سكنية في الحيّ الذي يقطن فيه، وبعد أن ظلّت مقفلة لسنوات عدّة، وهي عبارة عن 3 غرف، عرضها صاحبها بـ600 دولار في الشهر، وبشرط تسديد 3 أشهر سلفاً.
وقال: “نبحث عن شقة بالقرب من أماكن عملنا، إذ إن السكن في مناطق خارج الضاحية سيزيد تكاليف التنقل وغيرها علينا”.
الأمر نفسه في منطقة برج البراجنة، والليلكي، وحي السلم، والسان تيريز، والأوزاعي وغيرها، فالأسعار ارتفعت بنسبة تفوق الـ 50%؛ هذا عدا الشروط التعجيزية كدفع شهر عمولة أيضاً.
الوضع لم يختلف في الجنوب والبقاع، فالبدلات المعقولة نادرة جداً نسبة إلى عدد الذين دُمّرت منازلهم؛ وأيّ شقة تُعرض للإيجار سرعان ما تختفي، لمعرفة مَن خسر منزله أن أعمال إعادة البناء والترميم لن تكون قريبة!
في هذا الإطار، يشرح الدكتور جهاد الحكيّم أن تكلفة إعادة الإعمار ستكون كبيرة على لبنان مهما بلغت، ومصادر الأموال شحيحة، جراء توالي الأزمات الاقتصادية والمالية والسياسية والقضائية التي ضربت لبنان، منذ 7 سنوات، من انفجار مرفأ بيروت إلى جائحة كورونا وانهيار سعر صرف الليرة والانهيار المصرفي، وكذلك غياب القضاء وهروب رؤوس الأموال وغيرها.
يربط الحكيّم بين هذه الأزمات وأزمة السكن الحالية، قائلاً “ما يجري اليوم هو أن تجار الأزمات يرفعون أسعار الشقق السكنية بحجة ارتفاع الطلب، بالإضافة إلى عدم وجود قروض مصرفية أو استثمارات خارجية مباشرة، كما أن الانهيار العقاري لم يشجّع الناس على إنشاء الأبنية تجنباً لتكبّد المزيد من الخسائر، وبالتالي انخفض عدد الشقق المتوافرة.
الحكيّم، وهو أول من توقّع تاريخ وحجم الانهيار المصرفي والعقاري في لبنان، وكان قد نصح المواطنين بتنويع محفظتهم المالية للتحوّط من الانهيار المصرفي والمالي، أكّد في حديثه لـ”النهار” أن الحرب الأخيرة فاقمت وضع اقتصاد لبنان، الذي يعاني من ركود وكساد أساساً، سوءاً، قائلاً “على مدى سنوات لم نتمكّن من الخروج من هذا الوضع”.
ويختم: “الاقتصاد غير مبنيّ على أسس متينة، والتعويل على الدعم والمساعدات الخارجية ليس حلاً مستداماً”.
يصف الخبير الاقتصادي، الدكتور باتريك مارديني، في حديثه لـ”النهار”، الكلام عن التعويضات وتأمين البدائل بـ”الشعبويّ”، لافتاً إلى أن حجم الدمار رفع الطلب على الإيجار، وخفض عدد الشقق المتاحة، مؤكّداً أن أي شقة تعرض في السوق للإيجار تختفي في ثوانٍ.
يشرح مارديني بأن المشكلة ليست فقط في تجار الأزمات بل في سوق الإيجار اللبنانية، التي تُعدّ تاريخياً صغيرة، ويقول: “الناس إجمالاً من قبل الأزمة تفضّل البيع على الإيجار، لأن تأجير الشقة يجعلها تخسر نحو 10 أو 20 في المئة من قيمتها، ومن الطبيعي أن يلجأ صاحب الشقة لرفع بدل الإيجار ليعوّض خسارته”.
يضيف: “على المدى القصير، التعويل هو على المساعدات المالية فقط، أما على المدى المتوسط والطويل فهو إعادة الإعمار عبر جذب رؤوس الأموال من جديد، وهذا مشروط بعمل الحكومة؛ فالدولة اللبنانية لا تتلقى مساعدات من الدول المانحة بسبب فقدان الثقة والفساد والهدر، ومفتاح جذب الاستثمارات هو الإصلاح وخضوع الدولة لقانون الشراء العام بطريقة انتقاء المتعهدين ووجود منافسة حقيقة بين العارضين بعيداً عن المحسوبيات”.
بدوره، يوضح رئيس مؤسسة JUSTICIA في بيروت، والعميد في الجامعة الدولية للأعمال في ستراسبورغ، المحامي الدكتور بول مرقص لـ”النهار” بأن التعويضات التي حكي عنها ستكون بالطبع دون المطلوب، ودون حاجة الناس، حيث إن الأضرار كبيرة جداً، خصوصاً لمن هدّمت بيوتهم ومحالهم التجارية، واحترقت سياراتهم.
وقال: “التعويل يبقى على المساعدات الخارجية أكثر منه على الدولة التي لا يمكن لها في الظروف الحالية أن تزيد من عجزها وديونها المتراكمة بالرغم من أحقية التعويضات”.
وأضاف: “الحكومة قاصرة عن حشد المساعدات الدولية بسبب الوضع السياسي الذي بموجبه دول الخليج عموماً، والسعودية خصوصاً، غير مشجّعة على تقديم يد العون، بسبب موقف حزب الله العدائي تُجاهها، وبسبب عدم اكتمال معالم أو صورة عودة لبنان إلى البيئة العربية”.
اضغط هنا لقراءة المقال على موقع النهار