يرفض الخبراء في لبنان بصورة عامة الحديث عن شح المياه، ويطالبون في المقابل بالإشارة إلى سوء الإدارة للثروة المائية، ويجزمون بأن لا مشكلة طبيعية على رغم تراجع كمية المتساقطات وانعكاسها على كميات المياه السطحية، وسط مخاوف جدية على مستقبل البلاد المائي بسبب الفساد.
تتقاطع الشهادات من مختلف المناطق اللبنانية على الشكوى من “ندرة المياه الحلوة”، وكيف شكلت عبئاً إضافياً على موازنة الأسر المحدودة الدخل والمتوسطة، وبخاصة بعد فصل شتاء قاحل لم تهطل الأمطار فيه كالمعتاد.
تتحدث السيدة غدير عن معاناة سكان الطيونة ومنطقة الشياح في العاصمة بيروت، وتقول “في السابق كانت تأتي مياه الدولة مرة واحدة كل ثلاثة أيام، أما حالياً فتمر 10 أيام من دون وصولها إلى المنازل. من هنا، يضطر السكان لشراء ما تيسر من المياه التي يؤمنها أصحاب الصهاريج، ومن دون التحقق من جودته ونظافتها”. هي شهادة عن مجموعة كبيرة من المواطنين الذين يلجأون لشراء صهريج كبير لتعبئة خزانات مبنى مشترك، إذ تقسم الكمية وثمنه على الشقق، وبذلك تحصل كل عائلة على أربعة أو خمسة براميل لقاء مبلغ يصل أحياناً إلى 20 دولاراً أميركياً على اختلاف الأحياء البيروتية وقدرات سكانها.
تشكو غدير من ملوحة المياه، فهي غير صالحة للاستخدام البشري، إذ “تلجأ لشراء غالونات مياه حلوة لاستخدامها في غسل الخضراوات والفاكهة والجلي والاستحمام”.
لا تتوقف المعاناة عند حدود المنزل، وإنما تمتد إلى البساتين وري المزروعات، إذ اضطر المزارعون لتقنين عملية الري، وأحياناً عدم زراعة الموسم الصيفي. ويؤكد محمد حسين الرفاعي صاحب مشروع زراعي في عكار شمال لبنان أنه “في سهل عكار شحت الآبار، واضطر أصحاب المشاريع إلى تعميقها نسبياً من أجل الوصول إلى المياه الجوفية اللبنانية”، مضيفاً “إلا أنه في بعض المناطق فشلنا في حفر آبار أو زيادة العمق المعهود، وهو ما انعكس على عملية الزراعة، إذ توقف زرع الموسم الصيفي، واكتفى المزارع بالموسم الشتوي المنقضي”.
ضحايا السلوك البشري
خلال العقد الأخير بدأت هذه المشكلة بالاتساع على المستوى العالمي، إذ يجد العلماء رابطاً بين الاضطرابات المناخية ونقص المياه. أما في لبنان فتعود أسبابها إلى تراجع نسبة المتساقطات خلال الأعوام القليلة الماضية، على رغم كونه من أكثر الدول العربية وفرة في المياه بفعل تضاريسه الجبلية المواجهة للبحر المتوسط، وتلقيه مختلف الكتل الباردة، التي تتحول إلى ثلوج وأمطار.
يشير المتخصص في مركز الاستشعار والتغير المناخي الدكتور أمين شعبان إلى أن “المعدل الوسطي لمعدل الأمطار في لبنان هو 800 ملم، فيما يبلغ داخل المنطقة العربية قرابة 120 ملم، كما أنه البلد الوحيد الذي تغطيه الثلوج لأشهر عدة، مما يؤمن 60 في المئة من موارد البلاد المائية”. ويتمسك بتسمية لبنان بوصفه “البرج المائي لمنطقة الشرق الأوسط” ويمتلك 14 نهراً، تؤمن شبكة كثيفة بسبب ما يتفرع عنها لأكثر من ألفي نبع ماء والبرك والبحيرات، ونحو 35 بركة وبحيرة كبيرة، إضافة إلى ما يزيد على ألفي بركة جبلية وثلاث طبقات من المياه الجوفية”.
نصيب الفرد اللبناني كان يبلغ 1350 متراً مكعباً خلال العام مقارنة بـ600 متر مكعب في المنطقة العربية، فيما يبلغ المعدل العالمي ألف متر فحسب، أي إن ثمة وفرة نظرية بالمياه في لبنان، بالتالي لا بد من البحث عن الأسباب الحقيقية للمشكلة التي طرأت خلال الأعوام الماضية.
أما الحاجات الفردية فتقدر بـ220 متراً مكعباً خلال العام، أي إن الكمية الموجودة هي ستة أضعاف حاجة المواطن اللبناني، ولكن ما يثير الدهش أن هذه الكمية لا تصل إلى بيوت اللبنانيين، مما يفتح الباب أمام السلوكات الشائنة والسحب غير المدروس، وفوضى بيع وشراء المياه على رغم الوفرة المائية.
يعزو شعبان مشكلة المياه في لبنان إلى أسباب متداخلة ومتراكمة، فهي لا تقتصر على الزيادة الطبيعية للسكان، إذ تزداد حاجة البلاد السنوية بمعدل 20 مليون متر مكعب إضافية، إلى جانب التغيرات المناخية وتراجع الأمطار، أو حتى هطولها بغزارة بما يحول دون تسربها إلى جوف الأرض، وارتفاع درجات الحرارة بمعدل 1.8 درجة خلال العقود الخمس الماضية، إضافة إلى التغييرات في الفصول بين شتاء مبكر وصيف متأخر وبالعكس. ويشدد على أن السبب الأهم هو سوء استخدام المياه، بسبب الضخ العشوائي المفرط وعدم مراقبة الآبار.
مشكلة صادمة بالأرقام
دخل لبنان إلى منطقة “المؤشر الأحمر” على مستوى أزمة المياه في البلاد بفعل سوء الإدارة والضخ غير المدروس. ويشير المتخصص شعبان إلى مسح علمي بدأ خلال عام 1985، إذ شكلت في حينه المياه السطحية أكثر من 70 في المئة من مياه لبنان، وتحديداً الأنهار والينابيع، ثم شهدت الأوضاع تدهوراً ليتضح خلال عام 2000 أن الضغط انتقل إلى المياه الجوفية، أي انصب السحب على الآبار بسبب تلوث الأنهار والينابيع، وخير شاهد عليها ما يعانيه نهر الليطاني جنوباً وبحيرة القرعون في البقاع شرقاً.
واتضح بين عامي 2023 و2024 أن مياه الآبار باتت تشكل 86 في المئة من المياه المستهلكة داخل لبنان، وهو ما يشير إلى الاعتماد على المياه الجوفية عوضاً عن السطحية، مما ينعكس مباشرة على غزارة الينابيع والكمية المضخوخة في الأنهار والبرك، وهي التي تشكل حلقة هيدرولوجية مترابطة.