يعيش لبنان أزمة كهرباء لا سابق لها مع انخفاض ساعات التغذية من المولّدات ومن مؤسسة كهرباء لبنان، بسبب عدم توافر الفيول الذي يكلّف الدولة نحو 1.2 مليار دولار سنوياً (مؤسسة الكهرباء والبواخر التركية).
ويبدو أنّ الأزمة ستتفاقم في الأيام المقبلة، بعدما أعلنت المديرية العامّة للنفط، في بيان، أنّها ستتوجه إلزامياً للتوقف عن تسليم مادّة المازوت، محتفظة بكمية محدودة جدّاً للحالات الطارئة والاستثنائية، مع تأكيد ضرورة الحفاظ على المخزون الاستراتيجي للقوى الأمنية. ويأتي هذا القرار بعدما قامت منشأتا النفط في طرمنافسابلس والزهراني يوم الإثنين وحتى منتصف الليل، بتأمين السوق المحلّية من مادّة المازوت بمعظم قطاعاتها، بما فيها الأفران والمستشفيات والمولّدات، والمرافق والمؤسسات العامّة كافّة بما فيها المطار والمؤسسات السياحية ومؤسسات المياه. وقدّرت الكميات الموزّعة من المنشأتين بنحو 14 مليون ليتر، ما يعادل نصف حمولة باخرة كاملة، وُزّعت على 160 شركة توزيع، مع السماح استثنائياً لهامش إضافي في كميات الحصص المعتمدة. وتبعاً لذلك، نفد معظم المخزون في ظلّ عدم ترقّب فتح اعتمادات مرتقبة لاستيراد بواخر إضافية من مادّة المازوت لمصلحة المنشآت.
أمام هذا الواقع، تحصر مصادر متابعة لملفّ الكهرباء مشكلة التقنين بنقص الفيول وعدم توافر الأموال اللازمة لشرائه، فيما يمكن للبنان أن يؤمّن هذه الأموال من كلفة إيجار البواخر التي يتمّ التذرّع بها لزيادة ساعات التغذية. وأكّدت أنّ المشكلة التي يسوّقون لها بأنّ المعامل التي يتمّ التركيز عليها كسبب رئيسي لعدم توافر الكهرباء، هي في الواقع ليست إلّا للتعمية على حقيقة مفادها أنّ بناء المعامل واستئجار البواخر يمكن أن يكونا مصدر رزق لهم، على خلفية العمولات التي يحصلون عليها من جرّاء تسهيلهم هذه العمليات.
فلبنان الذي يستأجر البواخر من شركة “كارباور شيب” التركية بفعل مناقصة لم تجرِ ضمن الأطر القانونية الصحيحة، يدفع نحو 850 مليون دولار سنوياً كلفة استئجارها، فيما المشروع يمتدّ لـ5 سنوات (نحو 4 مليارات و250 مليون دولار)، أي ما يفوق كلفة بناء أكثر من معمل لإنتاج الكهرباء.
والمعلوم أنّ البواخر جاءت حلّاً موّقتاً، إلّا أنها تحوّلت إلى حلّ شبه دائم بفعل الفساد الذي ظهرت بوادره في قضية قبض الرشوة وتبييض الأموال. ما حدا بالنائب العامّ المالي علي إبراهيم إلى إصدار قرار بمنع الباخرتين التركيتين من مغادرة لبنان، قبل انتهاء التحقيقات في القضية. فيما دفعت الشركة التركية 25 مليون دولار، وذلك بموجب البند الجزائي الذي يؤكد أنّ الشركة لم تعرض ما يثبت عكس الوقائع.
بحسب الخبير الاقتصادي في المعهد اللبناني لدراسات السوق أنطوني زينا، فإنّ عجز مؤسسة كهرباء لبنان الذي تخطى الـ40 مليار دولار، يرهق الخزينة العامّة، فيما تشتري الدولة مشتقّات النفط للمؤسسة بقيمة 1.2 مليار دولار سنوياً، وتأخذ البواخر حصّة من مشتقّات النفط. ويقول: “مع وجود حلول بديلة عن البواخر، تنتج عدد الساعات نفسه بكلفة أدنى، وتبدأ بالاعتماد على المعامل الموجودة حالياً لدى مؤسسة كهرباء لبنان، وتنتهي بإدخال المنافسة على القطاع، لا تزال وزارة الطاقة تصرّ على خطط أثبتت فشلها في الماضي”.
وقد صرّح وزير الطاقة السابق جبران باسيل، بأنّ توقف هذه البواخر عن الإنتاج يعني انقطاع 4 ساعات من التغذية يومياً، وأنّ كلفة استبدال هذه البواخر بالمعامل هي أكثر من 100 مليون دولار. ولكن زينا يرى أنّ الحديث “عن ارتفاع التكلفة بسبب توقف البواخر عن إنتاج الطاقة غير دقيق. إذ في مقدور مؤسسة كهرباء لبنان زيادة الإنتاج بمعاملها بطريقة فعّالة تسمح بالتعويض عن ساعات النقص الأربع المترتبة عن إيقاف البواخر من دون أيّ تكلفة إضافية، بل يمكنها توفير 10 ملايين دولار سنوياً. وترتفع تكلفة البواخر إلى نحو 300-350 مليون دولار سنوياً، منها 150 مليون دولار على شكل كلفة إيجار والباقي كلفة فيول، أي ما يعادل 13.99 سنتاً للكيلواط/ ساعة. أما مؤسسة كهرباء لبنان، فيمكنها زيادة التغذية بـ 4 ساعات يومياً بكلفة نحو 290 مليون دولار إذا أعادت تشغيل معمل الزهراني فقط، بكلفة إنتاج 13.62 سنتاً للكيلواط/ ساعة. ولكن العجز المالي يشكّل المشكلة الأساسية في القطاع، لا عدم توافر القدرة الإنتاجية، فالهدر المتواصل للأموال وسوء الإدارة هما العائقان أمام شراء كمية كافية من الفيول للمعامل”.
وينصح زينا بإرسال بواخر “كارادينيز” إلى ديارها وبالتخلّص من المعامل المكلفة، مثل معامل جية 1 وصور وبعلبك التي يبلغ متوسط كلفة إنتاجها 19.94 سنتاً للكيلواط/ ساعة، والتركيز على المعامل الأكثر كفاية، وهي زوق 1 وزوق 2 وجية 2 ودير عمار والزهراني وراشميا والناعمة، التي بمقدورها إنتاج 15 ساعة بكلفة 13.93 سنتاً للكيلواط/ ساعة، علماً أنّ الإنتاج المعتاد هو 12 ساعة بكلفة 14.41 سنتاً للكيلواط/ ساعة، ما يعني زيادة 3 ساعات من التغذية بكلفة أقلّ.
ويشدّد على أهمية تجزئة مؤسسة كهرباء لبنان (Unbundling) إلى شركة إنتاج وشركة نقل وشركة توزيع، إلى جانب تفكيك احتكارها والسماح للشركات الخاصّة بالدخول والمنافسة في الإنتاج والتوزيع. تفتح المنافسة المجال لإيصال أفضل خدمة إلى المواطن، وتترك له الحرية ليختار الشركة الأنسب له، كما هي حل بكلفة 0 دولار على خزينة الدولة. ويضرب زينا مثالاً دولة جورجيا، التي كانت تعاني احتكاراً مماثلاً لاحتكار كهرباء لبنان من شركة “سكنرجو” الوطنية، التي كانت سبب انقطاع الكهرباء لـ 21 ساعة يومياً في التسعينيات. وبعد تجزئة الشركة إلى إنتاج ونقل وتوزيع وفتح القطاع أمام المنافسة، تأمن التيار الكهربائي بمعدل 24/24 عام 2008، كما انخفض عبء الكهرباء المالي على المواطن فلم يعد يشكّل أكثر من 3% من مدخوله. وفي المقابل، أدّى احتكار كهرباء لبنان إلى تدهور القطاع وإلى خسارات مالية، سبّبت ازدياد الدين العامّ 45 مليار دولار منذ سنة 1992، ما يهدّد بالعتمة إذا لم تُدفع المستحقّات.
اضغط هنا لقراءة المقال على موقع النهار