منصّة صيرفة عصا سحرية للجم سعر الدولار أم استنسابية في توزيع العملة؟

منصّة صيرفة عصا سحرية للجم سعر الدولار أم استنسابية في توزيع العملة؟

مرة جديدة، يُخرج حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الأرنب من قبعته ويضرب بعصا سحرية متدخلًا في سوق الدولار الذي سجّل تراجعاً غير مسبوق بقيمة حوالي 10 آلاف ليرة خلال 24 ساعة، بعد توزيعه تعميماً إلى المصارف يطلب فيه تشغيل منصّة صيرفة، وبياناً إلى المواطنين الراغبين بشراء الدولارات من المصارف اللبنانية على سعر المنصة. 

من المعلوم، أن المصارف بغالبيتها الساحقة تقوم اليوم بخفض عمليات بيع الدولارات إلى حدودها الدنيا، في محاولة منها لممارسة ضغوط على السلطة السياسية، لدفعها إلى تصويب مسار خطة التعافي المرفوضة من قبلها. حتى إن عمليات بيع الدولارات التي تقوم بتنفيذها يتم حصرها بفئات ضيّقة جداً، في حين توقفت كلّياً عن بيع الدولارات للعموم، خصوصاً للموظفين الموطّنة رواتبهم.

بعض المراقبين يعتبر أنه في إمكان “المركزي” التدخّل بشكل أفضل، عندما كان يملك أكثر من 32 مليار دولار من احتياطي عملات صعبة في بداية الأزمة.

وكانت النتيجة توفير مليارات الدولارات للبنان من الدعم الذي انتهى في جيوب التجار، ومحتكري المحروقات والأدوية والمواد الغذائية، والتي بيعت في السوق السوداء أو هرّبت إلى الخارج.

في غضون ذلك، تكمن التداعيات السلبية للمنصّة في أنّها تشرّع الاستنسابية في اختيار المستفيدين منها، أي الأفراد الذين يشترون الدولارات عبرها بأسعار صرف أقلّ من السوق السوداء من خلال المصارف، رغم مفاعيلها في تقليص الطلب على الدولار في السوق السوداء، التي بقيت سيّدة السوق لفترة طويلة.

في مفهوم القانون وميزان العدل، من يراقب ويضبط منصّة صيرفة اليوم في ضوء مزاجية أصحاب وموظفي المصارف بفتحها وإغلاقها متى يريدون، وحصر الإفادة من دولاراتها بهم وببعض المقرّبين منهم؟

الرئيسة التنفيذية لمؤسّسة Juriscale الدكتورة سابين الكيك ترى أن “هذه المنصّة ليس لها وجود في القانون، ولا نعلم علام جرى الاستناد عند إنشائها. ولكن من الواضح أن ما يحصل هو خلق مضاربة على العملة بدل أن يكون الهدف العمل على استقرارها. نحن لا نعلم من يدير هذه المنصّة؟ متى تفتح ومتى تتوقف؟ وبالتالي من يتحكّم بها؟”.

وتضيف: “نحن لا نعلم من هو سيّد القرار. ولكن التلاعب بسعر صرف الدولار يؤكد أن المضاربة على العملة مصدرها الجهاز المفترض أن يكون المتحكّم بها. وللتأكيد على ذلك، فإن الكمية من الدولارات الموضوعة على منصّة صيرفة ليست كافية لتلبية الطلب في السوق. وهذا مفاده أن مصرف لبنان والمصارف ينزلقون معاً في سوق المضاربة بسعر الدولار، سيّما وأن الكمية المتوافرة بين أيديهم هي أقل بكثير من حاجة السوق. فالطرفان يستنبطان وسائل وأساليب لطمس الحجم الحقيقي لما يتوافر من دولارات لديهم”.

وتقول لـ”النهار”: “لا أفهم هنا ما معنى التعميم الأخير “للمركزي”، وما الغاية منه طالما أن مصرف لبنان قادر على ضخّ الدولارات؟ ولماذا سجل ارتفاعاً في سعره؟ طالما أن المنصّة هي نفسها! ما هو سحر هذا التعميم؟ ماذا تبدّل خلال 24 ساعة؟ من الواضح أن الموضوع مرتبط بالتلاعب بنفسية ومشاعر المواطنين. فالأسعار لا تتراجع بل على العكس هي في تصاعد”.

من جهته، يقول مدير المعهد اللبناني لدراسات السوق الدكتور باتريك مارديني: “إن “المصرف المركزي” هو اللاعب الأكبر في السوق اللبناني؛ فهو الذي يحدّد كمية الدولارات المنوي ضخّها على منصّة صيرفة وفق التعميم 161، وبالتالي، اليوم الذي يتم فيه ضخّ الكمية الكبيرة يتراجع سعر صرف الدولار، فيما تخفيف الكمية يؤدي إلى رفع سعره. أيضاً، هناك عامل الطلب الذي له انعكاسات كبيرة. ومن المعروف أن الطلب هو كبير في السوق. وبقدر تصاعده ثمّة امتصاص من قبل السوق المتعطّش لهذه الكميات. تحكّم “المركزي” مرتبط جداً بقدرته على ضخّ الدولارات، أي بما يملك من دولارات في احتياطه من العملات الأجنبية. وبالتالي، كلما اضمحلّ هذا الاحتياطي تراجع تدخلّه”.

ولم ينفِ مارديني “وجود استنسابية في الحصول على الدولارات عن طريق منصّة صيرفة”. ويقول: “نسمع أن ثمة أفراداً يستفيدون من سعر صيرفة على حساب آخرين. هذه الممارسات موجودة، وتوزيع الدولارات لا يتم بشكل متوازن عبر صيرفة”.

ويتابع: “في مطلق الأحوال، التقلّبات الحادة في سعر الصرف ليست عاملاً إيجابياً. إذ إنه مع تصاعد سعر صرف الدولار من 37 ألف ليرة ومن ثم تراجعه بوتيرة سريعة، يُبرز مؤشراً غير مطمئن، لأنه في الأساس لم يكن يفترض “بالمركزي” ترك السوق على منواله من تفلّت للسعر طالما يستطيع التدّخل به.

هذه التقلّبات السريعة الحادّة صعوداً ونزولاً تحفّز على المضاربة، أي إذا كان ثمة من يعلم مسبقاً بتدخّل “المركزي” فيلجأ إلى بيع دولاراته بسعر عالٍ، ومع انخفاضه يعود إلى الشراء بسعر أقل، والنتيجة ستكون الربح الوفير خلال مدة قليلة”.

ويضيف: “التقلبات السريعة بسعر الصرف تشجّع على المضاربة. ولا أدري إذا كان ثمة من يعلم بحصولها قبلاً، وأتمنى أن لا يكون كذلك”.

وبعيداً عن المضاربة، هذه التقلبات مؤذية للاقتصاد ككل. فالشركات والتجار لا يعرفون أي سعر سيعتمدون. والمستهلك يفاجأ بين الأسعار المعروضة وتلك المتوجّب تسديدها. كما أن هذه التقلبات مؤثّرة بشكل سلبي على المصداقية وعلى الثقة بالاقتصاد اللبناني، حيث يتردّد المستثمرون الذين يواجهون في كل يوم سعراً جديداً لسعر الدولار. أضف إلى الأثر المباشر على عملية الاستيراد والتصدير وسوق العمل بالنسبة للتاجر والمستهلك والمستثمر والجميع”.

في مطلق الأحوال، ثمة من يرى في تغذية منصّة صيرفة حرقاً لدولارات ما تبقّى من احتياطي ومن أموال المودعين، فيما البعض، مهنئاً على هذا التدبير، يردّ مصدره إلى استعمال التحاويل من الخارج.

والأيام المقبلة كفيلة بتحديد مسار الأمور المرتبطة بالوضع السياسي وبمزاجية أصحاب المضاربات المتفلتين من العقاب عندما تم شفط أموال المودعين.

ويبقى السؤال: هل تفعيل منصّة صيرفة عصًا سحرية للجم سعر الدولار أمام حجم الطلب الفاحش أم استنسابية في توزيع العملة؟

اضغط هنا لقراءة المقال على موقع النهار