الملخص. تمثل الأزمة الاقتصادية اللبنانية المثال التطبيقي الحي لما قاله الكاتب الأميركي الساخر مارك توين: “الأرقام لا تكذب، ولكن الكذابين يكتبون أرقاماً”. فقد اعتبر المسؤولون اللبنانيون أن بإمكان احتساب الدولار الجمركي على سعر أعلى من سعر الصرف الرسمي أن يغطي الزيادات المتتالية على رواتب موظفي القطاع العام. وقد كان الموظفون أنفسهم أول من دحضوا صحة هذه الحجة، معتبرين أن الزيادة على الرواتب هي “الشماعة” التي تعلق السلطة عليها إجراء رفع الرسوم الجمركية دون أن تؤدي النتيجة المرجوة منها. وتُظهِر هذه الورقة أن زيادة الدولار الجمركي بالتوازي مع زيادة الرواتب والأجور زاد العجز المالي بأكثر من 10 تريليون ليرة للعام 2022 وبأكثر من 20 تريليون ليرة للعام 2023. وتُفاقِم هذه الفجوة الإضافية في موازنة الدولة من مشكلة المالية العامة ولن تستطيع الحكومة تمويلها إلا من خلال الاقتراض من المصرف المركزي، ما يرفع من مخاطر التضخم وانهيار سعر الصرف.
- مجموع إيرادات الدولار الجمركي للعام 2022: حوالي 1.28 تريليون ليرة
بدأت التأثيرات السلبية لتغيير سعر صرف الرسوم الجمركية على الواردات، أو ما أصبح يعرف بـ “الدولار الجمركي”، حتى قبل البدء في تطبيقه. فقد دفع تلويح الحكومة بنيّتها رفع الرسوم الجمركية خلال العام 2022 إلى أوسع عملية استيراد من الخارج تحسباً لارتفاع الأسعار وبغية تحقيق أعلى قدر ممكن من الأرباح. وعليه، فقد ناهز حجم الواردات 19.5 مليار دولار تمثل نحو 85 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي المقدر لهذا العام بحدود 23 مليار دولار بحسب البنك الدولي. وقد بقيت الرسوم الجمركية على الواردات تحتسب على أساس سعر 1500 ليرة للدولار الواحد طيلة الأشهر الأحد عشرة الأولى من العام 2022، ولم تبدأ الجمارك في احتسابها على أساس 15000 ليرة للدولار إلا في الأول من كانون الأول من العام 2022، أي بتأخر دام نحو شهرين عن تاريخ إقرار موازنة العام 2022. وتمثل عائدات الرسوم على البضائع والسلع المستوردة 2.5 في المئة من مجموع الواردات، بحسب دراسة لـ “بلوم إنفست”[i]. وعليه، يُظهِر تطبيق هذه النسب على واردات العام 2022 المقدرة بـ 19.5 مليار دولار أن مجموع الرسوم الجمركية بلغ نحو 1.28 تريليون ليرة.
- تكلفة زيادة الرواتب والأجور للعام 2022: حوالي 12 تريليون ليرة
وأقرت موازنة 2022 زيادة الرواتب في القطاع العام بمعدل ثلاثة أضعاف، وأعطت وزير المالية حرية احتساب سعر الصرف على الرسوم المقومة بالدولار بالتنسيق مع مصرف لبنان. ويُقَدَّر أن تكون كتلة الرواتب للقطاع العام، الذي يشمل 250 ألف موظف في الخدمة الفعلية بالإضافة الى 130 ألف متقاعد[ii]، إلى جانب بدل النقل قد وصلت في العام 2022 إلى 19 تريليون ليرة لبنانية. حيث شهد ذلك العام إعطاء مساعدات اجتماعية بمراسيم رئاسية[iii] أضيفت إلى كتلة الأجور المقدرة بنحو 12 تريليون ليرة لبنانية. ويمكننا الملاحظة أن زيادة الرسوم الجمركية (1.28 تريليون ليرة) لا تكفي لتغطية زيادة الرواتب والأجور للعام 2022 (12 تريليون ليرة).
- مجموع إيرادات الدولار الجمركي للعام 2023: حوالي 29.4 تريليون ليرة
أمام عدم كفاية الرسوم الجمركية لتغطية النفقات الهائلة للدولة، عمدت وزارة المالية بالتنسيق مع مصرف لبنان إلى رفع الدولار الجمركي مرة أخرى ليصل إلى 45 ألف ليرة في الأول من آذار 2023، ثم إلى 60 ألف ليرة في 18 نيسان 2023. وأخيراً وليس آخراً كما يبدو، رُفِع الدولار الجمركي إلى 86 ألف ليرة في 13 أيار 2023. وعليه، يقدِّر بلوم إنفست إيرادات الدولار الجمركي بـ 6.1 تريليون ليرة للأشهر الأربعة الأولى، تضاف إليها 23.3 تريليون ليرة لبنانية للأشهر الثمانية المتبقية، أي ما مجموعه 29.4 تريليون ليرة للعام 2023.
- تكلفة زيادة الرواتب والأجور للعام 2023: حوالي 51 تريليون ليرة
بالتوازي، أقرت الحكومة اللبنانية في نيسان 2023 إعطاء موظفي القطاع العام 4 رواتب من خارج الموازنة تضاف إلى الرواتب الثلاثة المقرة في موازنة 2022 ورفع بدل النقل إلى 450 ألف ليرة يوميا. ومن المنتظر أن ترتفع فاتورة الرواتب 7 أضعاف لتصل سنوياً إلى 70 تريليون ليرة خلال العام 2023، بحسب دراسة تقديرية لـ “بلوم إنفست بنك”، أي بزيادة 51 تريليون ليرة عن العام 2022.
وحتى لو قاربنا حصرا الأشهر الثمانية المتبقية من العام 2023، أي الأشهر التي سيتم خلالها احتساب الدولار الجمركي على سعر منصة صيرفة، تبقى إيرادات الجمارك لهذه الأشهر (23.3 تريليون ليرة) أدنى بكثير من فاتورة الرواتب للفترة نفسها، أي 46.6 تريليون ليرة لبنانية.
- النتيجة: جولتان من التضخم
الجولة الأولى. تقدر دراسة مقارنة لنقابة مستوردي المواد الغذائية أن كل زيادة بقيمة 15 ألف ليرة على الدولار الجمركي تؤدي إلى ارتفاع الأسعار بنسبة 5 في المئة، خصوصاً بالنسبة للسلع التي يصل الرسم الجمركي عليها إلى 35 في المئة على غرار معلبات الخضار والألبان والأجبان. وفي المقابل، يؤدي ارتفاع سعر الدولار الجمركي من 1500 ليرة لبنانية لكل دولار أميركي إلى 86000 ليرة، أي بزيادة قدرها 5733 في المئة، بحسب المنطق الذي اعتمد عليه تحليل “بلوم إنفست بنك”، إلى زيادة أسعار الاستيراد بمقدار 5733 × 0.025 = 143،3٪. وعلى أيّة حال، لن تكفي عائدات الدولار الجمركي لتغطية الزيادات على الرواتب، هذا إن اقتصرت خلال الفترة المتبقية من العام الحالي على 7 أضعاف ولم تُرفَع أكثر من ذلك نتيجة للضغط، في حين ستساهم في زيادة ارتفاع سلع الاستيراد بنسبة 143.3 في المئة وتزيد بالتالي الضغوط التضخمية.
الجولة الثانية. يبلغ الفارق بين مجموع إيرادات الدولار الجمركي للعام 2023 وتكلفة زيادة الرواتب والأجور حوالي 21.6 تريليون ليرة. ولا تملك الحكومة اللبنانية مصادر لتمويل هذا النقص بسبب عدم قدرتها على الاستدانة من الأسواق المالية. وعليه، ستعمد الحكومة إلى الاستدانة من مصرف لبنان لتغطية هذه الزيادة الهائلة على الرواتب والأجور، ما سيؤدي إلى جولة جديدة من التضخم.
- الواقع قد يكون أسوأ من التقديرات
تسمح الفرضيات الواردة في تقرير بلوم إنفست بتقدير حجم الفجوة في المالية العامة الناتجة عن زيادة الرواتب والأجور والدولار الجمركي. لكن الفجوة المحققة في نهاية العام 2023 قد تكون أكبر من التقديرات. فعلى الرغم من عدم احتساب التأثير الإضافي لإيرادات ضريبة القيمة المضافة، نتوقع أن يتناقص مردود رفع الرسوم الجمركية للعديد من الأسباب وأهمها:
- انخفاض كمية المستوردات وقيمتها نتيجة ارتفاع الضرائب والرسوم والتخزين الذي جرى في العام 2022.
- التوقع بأن تنخفض العائدات من الدولار الجمركي نتيجة تراجع استيراد السلع التي ترتفع عليها الرسوم الجمركية.
- زيادة معدلات التهرب الضريبي والتهريب عبر المنافذ الشرعية وغير الشرعية.
- تراجع الاستهلاك الداخلي نتيجة ارتفاع سعر الصرف واستمرار الليرة في فقدان قيمتها الشرائية.
- الحل: ترشيق القطاع العام
ستؤدي أي زيادة في سعر دولار السوق الموازية إلى زيادة في الرواتب والأجور تحت ضغط الإضرابات والتوقف عن العمل. وبالتوازي، لا تملك الحكومة الموارد لتغطية هذه الزيادات. ومن هنا، يبدأ الحل بإعادة هيكلة القطاع العام. إذ يشكل بند أجور الموظفين والمتقاعدين في القطاع العام حوالي 171 في المئة من مجمل نفقات موازنة 2022 المقدرة بحوالي 41 ألف مليار ليرة. أما عدد العاملين في القطاع العام، فيمثل 25 في المئة من حجم القوى العاملة. وتُعتبَر هذه النسبة من الأعلى في العالم، خصوصا إذا ما قارنّاها مثلاً مع نظيرتها في اليابان التي لا تتعدى فيها نسبة الموظفين في القطاع العام 7 في المئة من مجمل القوى العاملة، أو في فرنسا وألمانيا التي تبلغ فيهما هذه النسبة 10 في المئة. وعليه، يكون الحل بادئ ذي بدء في تصغير حجم القطاع العام من خلال إعادة الهيكلة، لا من خلال الإقصاء والصرف العشوائي، وفي ترشيقه وجعله أكثر إنتاجية ومردودية. كما وتؤدي إعادة الهيكلة إلى التوقف عن طباعة الليرة التي تُعتبَر السبب الأول لارتفاع سعر الصرف واستمرار انهيار الليرة، مساهمةً بالتالي في امتصاص كل الزيادات التي تعطى للقطاع العام وتؤدي إلى ارتفاع الأسعار والتضخم، الأمر الذي يؤثر سلبا على الموظفين وعلى جميع المواطنين ويؤخر تعافي الاقتصاد
[i] Impact of Changes in the Customs Dollar Rate on Inflation and Government Revenue: An Update. “Blom invest bank”.
[ii] *تقرير اللجنة المكلفة العمل على دراسة الزيادات التي قدمت للقطاع العام وإعادة تفعيل العمل في الإدارة العامة.
[iii] الزيادات التي لحقت الرواتب من مقال خالد أبو شقرا في جريدة “نداء الوطن” تحت عنوان: تريليونات المساعدات الاجتماعية “فراطة” للموظفين… ومهلك للاقتصاد”.
في 28 كانون الثاني 2022 وقع رئيس الجمهورية مجموعة من هذه المراسيم منها:
- المرسوم رقم 8737 القاضي بإعطاء مساعدة اجتماعية موقتة لجميع العاملين في القطاع العام والمتقاعدين. حددت قيمة المساعدة بنصف راتب عن شهر تشرين الثاني ونصف راتب عن شهر كانون الأول 2021. تسدد على دفعتين متساويتين، على ألّا تقل الدفعة الواحدة عن 1.5 مليون ليرة، ولا تزيد عن 3 ملايين ليرة. وقدرت كلفة هذه المساعدة بـ 810 مليارات ليرة.
- المرسوم رقم 8738 القاضي بإعطاء منح تعليم بصورة موقتة للمستخدمين والعمال عن العام الدراسي 2021-2022. تبلغ قيمة المنحة مليون ليرة عن كل طالب منتسب إلى المدرسة والجامعة، سواء كانت رسمية أو خاصة، على ألا تزيد المنحة عن 4 ملايين ليرة للعائلة الواحدة. ولم يحدد المرسوم الكلفة الإجمالية لهذه المنحة، إلا أننا نستنتج لدى احتساب أعداد التلاميذ المقدرة بحدود المليون في مختلف المراحل وأعداد طلاب مرحلة التعليم العالي المقدرة بحدود 222 ألفاً أن كلفة هذه المنحة ستبلغ حوالي 1200 مليار ليرة، سيتحمّل منها القطاع العام نسبة تبلغ 50 في المئة على أقل تقدير.
- المرسوم رقم 8739 القاضي بإعطاء تعويض نقل شهري مقطوع للعسكريين في الجيش وقوى الأمن الداخلي والأمن العام وأمن الدولة والضابطة الجمركية وشرطة مجلس النواب من مختلف الرتب بقيمة مليون و200 ألف ليرة لبنانية، يضاف إلى تعويض الانتقال اليومي المستحق للعسكريين. وإذا افترضنا أن عدد القوى المسلحة في لبنان يبلغ حوالي 120 ألف عنصر، فستبلغ الكلفة الشهرية لهذه الزيادة 144 مليار ليرة، أي ما يعادل 1728 مليار ليرة سنوياً.
- المرسوم رقم 8741 القاضي بتعديل مقدار تعويض النقل الموقت للعاملين في القطاع العام بحيث يصبح 64 ألف ليرة لبنانية عن كل يوم حضور فعلي. وستبلغ كلفة هذه المساعدة حوالي 4600 مليار ليرة إذا افترضنا أن عدد الموظفين باستثناء أفراد القوى المسلحة يبلغ حوالي 200 ألف.
- التعميم رقم 2022/4 الصادر عن رئيس الحكومة، والذي يستند إلى المرسوم 8838 تاريخ 22/2/2022، ويقضي بتمديد المساعدة الاجتماعية لجميع موظفي الدولة وإعطائهم مبلغاً يتراوح بين 1.5 مليون ليرة و3 ملايين ليرة، وذلك إلى حين صدور قانون الموازنة العامة للعام 2022، بكلفة قد تتجاوز 5 مليارات ليرة لغاية نهاية العام في حال لم تقر الموازنة
[1] Impact of Changes in the Customs Dollar Rate on Inflation and Government Revenue: An Update. “Blom invest bank”.
[1] *تقرير اللجنة المكلفة العمل على دراسة الزيادات التي قدمت للقطاع العام وإعادة تفعيل العمل في الإدارة العامة.
[1] الزيادات التي لحقت الرواتب من مقال خالد أبو شقرا في جريدة “نداء الوطن” تحت عنوان: تريليونات المساعدات الاجتماعية “فراطة” للموظفين… ومهلك للاقتصاد”.
في 28 كانون الثاني 2022 وقع رئيس الجمهورية مجموعة من هذه المراسيم منها:
- المرسوم رقم 8737 القاضي بإعطاء مساعدة اجتماعية موقتة لجميع العاملين في القطاع العام والمتقاعدين. حددت قيمة المساعدة بنصف راتب عن شهر تشرين الثاني ونصف راتب عن شهر كانون الأول 2021. تسدد على دفعتين متساويتين، على ألّا تقل الدفعة الواحدة عن 1.5 مليون ليرة، ولا تزيد عن 3 ملايين ليرة. وقدرت كلفة هذه المساعدة بـ 810 مليارات ليرة.
المرسوم رقم 8738 القاضي بإعطاء منح تعليم بصورة موقتة للمستخدمين والعمال عن العام الدراسي 2021-2022. تبلغ قيمة المنحة مليون ليرة عن كل طالب منتسب إلى المدرسة والجامعة، سواء كانت رسمية أو خاصة، على ألا تزيد المنحة عن 4 ملايين ليرة للعائلة الواحدة. ولم يحدد المرسوم الكلفة الإجمالية لهذه المنحة، إلا أننا نستنتج لدى احتساب أعداد التلاميذ المقدرة بحدود المليون
فريق المعهد اللبناني لدراسات السوق
خالد أبو شقرا
باحث زميل في المعهد اللبناني لدراسات السوق