تسير الدول باستراتيجيات واضحة للوصول إلى حوكمة فعّالة وإدارات قادرة على تحقيق الأهداف بشفافيّة وجدارة. وقد كان لبنان من بين الدول التي تبنّت شرعة النزاهة، لكنّ دولته فشلت في التطبيق، فعلق بين فكيّ القانون والفوضى. ألبَس صفقاته القوانين، وترك لها حريّة إفشالها في الخفاء. ومن بين القوانين الرادعة والواقية من الفساد: قانون العقوبات، وقانون الشراء العام، وقانون مكافحة الفساد في القطاع العام، وإنشاء الهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد، وقانون التصريح عن الذمة الماليّة والمصالح ومعاقبة الإثراء غير المشروع، وقانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وقانون الجمارك، وقانون النقد والتسليف.
وقد أُنشئت في لبنان وزارة دولة لشؤون التنمية الإدارية مهمتها تطبيق مبادئ الإدارة الحديثة بمساعدة جهات خارجية ودول مانحة لطالما قدّمت لها الدعم المادي والمساعدة التدريبيّة. إلا أن هذه الوزارة كانت وما زالت تصطدم بعدم الرغبة في الخروج من دهاليز المحسوبيات والتربّح غير المشروع، ودائماً ما كان إضعاف الدولة اللبنانية يصبّ في مصلحة بعض ساستها. فلم تتمكن الوزارة المختصّة من إتمام دورها، ولم تُطبق القوانين التي ترعى النزاهة على حلبة الصفقات.
وقد أوجبت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد في المشتريات العمومية وإدارة الأموال العمومية إنشاء نظم اشتراء مناسبة تقوم على التنافس وعلى معايير الموضوعية في اتخاذ القرارات ما يساهم في منع الفساد. وتتمحور هذه النظم حول أهمية نشر وتوزيع المعلومات المتعلقة بإجراءات وعقود الاشتراء على شكل واسع، مما يتيح لأكبر عدد من الشركات وقتاً كافياً لإعداد عروضهم وتقديمها والتنافس فيما بينهم. كما تشدد على استخدام معايير موضوعية ومقررة مسبقا لتحديد شروط المشاركة، ومعايير الاختيار وإرساء العقود، وقواعد المناقصة، وطريقة اتخاذ القرارات. وتوصي إقامة نظام فعَّال للمراجعة الداخلية، بما في ذلك نظام فعَّال للطعن، يضمن إنصاف الشركات المنافسة في حال عدم اتباع الجهة الشارية القواعد أو الإجراءات الموضوعة.
ولا يناسب تفعيل المنافسة وضمان تعدد العارضين وصيانة حقوقهم غايات المنتفعين في لبنان، فكان تغييبها تحت ستار الخداع هو السبيل الوحيد لتمرير الصفقات. ولعلّ خير دليل على ذلك صفقة المعاينة الميكانيكية، فظاهرها بريء حيث سارت على صراط قانون الشراء العام والشفافية المستقيم، وباطنها غير صحي غيب المنافسة الفعلية وحصر المعاينة بمركز وحيد في كل محافظة. ولعلّ من زار دولاً أكثر تطوراً يعرف جيداً أن المعاينة الميكانيكية يمكن أن تحصل في أي ورشة (كراج) متعاقدة مع الدولة وتخضع لرقابة صارمة. أما في لبنان، فيُجبر المواطن على الانتظار في طوابير الذلّ لإنجاز معاينة كان من الممكن أن تتم في غضون دقائق في أحد كراجات الميكانيك.
وقائمة الأمثلة في لبنان تطول، وكأن تغييب المنافسة في الصفقات العمومية أصبح عرفاً مترفّعاً عن تساؤل المواطنين وهواجسهم ومساءلة أجهزة الرقابة. فليبان بوست والبريد وغيرهما حاضرات إن دعت الحاجة للتدعيم بالأمثلة. ففي صفقتي ليبان بوست والبريد الأخيرتين لم تكف الشفافية لإجراء مناقصة ناجحة، بسبب تغييب المنافسة العادلة والواسعة بين أكبر عدد ممكن من الشركات.
أنواع الفساد. تتعدد أنواع الفساد لتشمل الفساد في القطاع العام والفساد في القطاع الخاص والفساد المالي والفساد الاقتصادي والفساد السياسي والفساد التشريعي والفساد القضائي والفساد الاجتماعي والفساد الإداري. أما أسباب الفساد فتتراوح بين الأسباب السياسية والأسباب المرتبطة بالوظيفة القائمة على المغانم والمحسوبية في بلد مثل لبنان، كما الأسباب الاقتصادية والاجتماعية.
آثار الفساد. وتتوزع آثار الفساد بين الآثار الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمالية والبيئية، وهذه الآثار ظاهرة للعلن في لبنان حيث الانهيار المالي والاقتصادي المروع. وتعتبر الحوكمة كما الإصلاح الإداري من أنجع الطرق لمكافحة الفساد في القطاع العام.
وتعرف الحوكمة على أنها الطريقة المثلى في إدارة الموارد الاقتصادية والمالية والبشرية بما يوازن بين حقوق مختلف فئات المجتمع ويحقق مقتضيات التنمية المستدامة. وتتركز أسس الحوكمة على المبادئ والقواعد التالية:
- مبدأ سمو الدستور.
- مبدأ سيادة القانون.
- التشاركية.
- الإصلاح الإداري
- الشفافية والإفصاح.
- الكفاءة.
- النزاهة والأخلاق.
- التخطيط.
- التوجيه.
- الرقابة.
- المساءلة.
الإصلاح الإداري وعوامل نجاحه. ويُعرَّف الإصلاح الإداري على أنه جهد مشترك يهدف إلى إحداث تغييرات في الهيكل الإداري المعتمد بما يساعده في تحقيق أهدافه، وهو يقوم على تحسين أساليب العمل الإداري يعتمد اختيار الأفراد الأكفاء والمؤهلين كما يرتكز على التحول نحو الإدارة الإلكترونية جزأً من الحكومة الإلكترونية. ويسعى الإصلاح الإداري إلى تكوين البيئة التشريعية والإدارية والرقابية المناسبة لتحقيق الأهداف ومواجهة الظروف، والضغوط السياسية ، والاقتصادية، والاجتماعية.
ما هي عوامل نجاح الإصلاح الإداري؟
- بناء دولة الحق والقانون.
- اعتماء الكفاء والجدارة في التعيينات.
- التوازن بين الثواب والعقاب.
- المساءلة.
- قياس الأداء وتقييمه.
- التأهيل والتدريب المستمر.
وقد انضمت الحكومة اللبنانية إلى اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد بموجب القانون رقم 33 تاريخ 16/10/2008، المنشور في الجريدة الرسمية، العدد/44/، تاريخ 23/10/2008. وقد أصبح لبنان دولة طرفاً في هذه الاتفاقية بتاريخ 22/4/2009، وهو التاريخ الذي أودع فيه وثائق المصادقة على الاتفاقية لدى الأمين العام للأمم المتحدة. ولدى لبنان مجموعة وافية من القوانين الرادعة والواقية من الفساد، لعلّ من أهمها:
- قانون العقوبات الصادر بالمرسوم الاشتراعي رقم 340 تاريخ 1/3/1943 وتعديلاته.
- قانون الشراء العام رقم ٢٤٤/. ٢٠٢١ تاريخ ١٩-٠٧-٢٠٢١ وتعديلاته.
- قانون مكافحة الفساد في القطاع العام وإنشاء الهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد رقم 175/2020 تاريخ 8/5/2020 وتعديلاته.
- قانون التصريح عن الذمة الماليّة والمصالح ومعاقبة الإثراء غير المشروع رقم 189 تاريخ 16/10/2020 وتعديلاته.
- قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب رقم 44 تاريخ 24/11/2015.
- قانون الجمارك.
- قانون النقد والتسليف.
وقد أوجبت المادة التاسعة -الفقرة الأولى- من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد تحت عنوان المشتريات العمومية وإدارة الأموال العمومية (فقرة ١) على كل دولة طرف أن تقوم، وفقاً للمبادئ الأساسية لنظامها القانوني، بالخطوات اللازمة لإنشاء نظم اشتراء مناسبة تقوم على الشفافية والتنافس وعلى معايير الموضوعية في اتخاذ القرارات وتتسم، ضمن جملة أمور، بفاعليتها في منع الفساد. وتتناول هذه النظم، التي يجوز أن تراعى في تطبيقها قيم حدية مناسبة، أموراً منها:
- توزيع المعلومات المتعلقة بإجراءات وعقود الاشتراء، بما في ذلك المعلومات المتعلقة بالدعوات إلى المشاركة في المناقصات، والمعلومات ذات الصلة أو الوثيقة الصلة بإرساء العقود، توزيعاً عاماً، مما يتيح لمقدمي العروض المحتملين وقتاً كافياً لإعداد عروضهم وتقديمها؛
- القيام مسبقاً بإقرار ونشر شروط المشاركة، بما في ذلك معايير الاختيار وإرساء العقود وقواعد المناقصة؛
- استخدام معايير موضوعية ومقررة مسبقا لاتخاذ القرارات المتعلقة بالمشتريات العمومية، تيسيراً للتحقق لاحقاً من صحة تطبيق القواعد أو الإجراءات؛
- إقامة نظام فعَّال للمراجعة الداخلية، بما في ذلك نظام فعَّال للطعن، ضماناً لوجود سبل قانونية للتظلم والانتصاف في حال عدم اتباع القواعد أو الإجراءات الموضوعة عملاً بهذه الفقرة؛
- اتخاذ تدابير، عند الاقتضاء، لتنظيم الأمور المتعلقة بالعاملين المسؤولين عن المشتريات، مثل الإعلان عن أيِّ مصلحة في مشتريات عمومية معينة، وإجراءات الفرز، والاحتياجات التدريبية.
يمكن تعريف الفساد في الشراء العام بأنه استغلال موظف الشراء العام لوظيفته في تحقيق منفعة خاصة، فما هي مرتكزات قانون الشراء العام في لبنان لمكافحة الفساد استجابة للاتفاقية الأممية وانسجاما مع مقتضيات الحوكمة والإصلاح الإداري من المنظار الشامل؟
مبدأ الفعالية والمنافسة. أي الحرص على أن تكون الإجراءات التنافسيّة هي القاعدة العامّة والطريقة المعيارية لإجراء عمليات الشراء وسيلة لتعزيز الكفاءة وتأمين فرص متكافئة وعادلة لجميع الموردين المحتملين واعتماد وثائق واضحة ومتكاملة وموحّدة (دفاتر شروط نموذجيّة) بحيث يكون استخدامها مُلزماً لكل الجهات الشارية، ومكافحة الفساد واعتماد ضوابط صارمة تحدّ من الاتفاقات الرضائيّة وتوفير طرق شراء جديدة تتماشى مع متطلبات الحداثة.
مبدأ النزاهة. من خلال وضع تعريف واضح لها ولتضارب المصالح وتحديد حالاته المتعددة وتحديد أنواع العقوبات التي تطول موظفي القطاعين العام والخاص بدرجات تتناسب مع نوع العمل أو الفعل أو الامتناع عنه، بالإضافة إلى تحديد أنواع الرقابة والعقوبات التي تطول موظفي القطاعين العام والخاص بدرجات تتناسب مع نوع المخالفة.
مبدأ المساءلة والشفافية. من خلال تطبيق آليات واضحة للإشراف والرقابة، في كافة مراحل الشراء، على أن تشمل استحداث إطار جديد وفعّال للشكاوى والاعتراضات ضمن مهل محدّدة للبتّ بها وتدابير العقاب الملاءمة بما يعزز الثقة بالأداء، ووجوب النشر على المنصّة الإلكترونيّة المركزيّة، ما يتيح الوصول إلى المعلومات والبيانات لكافة المهتمين والمتدخلين، مع الحفاظ على موجب السريّة بموجب ما تقتضيه أحكام اقتراح القانون.
مبدأ التخصص. من جهة تخصيص موارد بشريّة عالية المهنيّة للقيام بعمليات الشراء وموجب التدريب المستمر لهم لتكون على قَدرٍ عالٍ من المهنيّة والاحتراف والنزاهة.
وقد كُرِّست هذه المبادئ والقواعد في نصوص قانون الشراء العام كما يلي:
- تعريفات واضحة لتضارب المصالح والتواطؤ (مادة ٢)
- شرعة قواعد السلوك (مادة ١٠)
- التدقيق الداخلي (مادة ١١١)
- حصر حالات التعاقد بالتراضي والنص على إجراءات واضحة ومحددة لإجراء عمليات الشراء غير المناقصة العمومية قاعدةً عامة، على أن يكون الاستثناء عند تعذر تطبيق القاعدة مبرراً ومرفقاً بالتعليل (مادة ٤٢، مادة ٤٦)
- النص على آليات واضحة ومحددة لتقديم العروض وفتحها وتقييمها (مواد ٥٤ و٥٥ و١٠٠)
- حظر المفاوضات من حيث المبدأ مع العارضين (المادة ٥٦)
- إلزامية التجميد والنشر (مادة ٢٤)
- اعتماد الشراء الإلكتروني (مادة ٦٦ – ٧١)
- التمهين والتدريب (مواد ٧٢ – ٧٣)
- إنشاء هيئة رصدية إشرافية رقابية (مادة ٧٤ و٧٦)
- مراعاة قواعد الاستقلالية وعدم الوقوع في تضارب المصالح في تعيين رئيس الهيئة وأعضائها (مواد ٧٨ و٧٩)
- تشكيل لجان التلزيم والاستلام وتحديد آليات عملها بما يؤمن استقلاليتها واختصاصها وكفاءتها (مواد ١٠٠ و١٠١)
- اعتماد مبدأ العقوبات الجزائية والتأديبية والمالية (مادة ١١٢).
- استبعاد العارض من إجراءات التلزيم (مادة ٨)
- شروط المشاركة في الشراء (مادة ٧)
- شرعة قواعد السلوك (مادة ١٠)
- فسخ العقد (مادة ٣٣)
- التخصص وبناء القدرات (مادة ٧٢)
- النزاهة (مادة ١١٠)
العقوبات (مادة ١١٢)
التوصيات. توصي هذه الورقة بتطبيق قوانين مكافحة الفساد في الصفقات العمومية بدلاً من إبقائها حبراً على ورق. وتشدّد على أن مكافحة الفساد لا تتحقق إلا عن طريق تفعيل المنافسة التي تضمن تحسين جودة السلع والخدمات التي تحصل عليها الجهات الشارية وتقلل أسعارها، كما تؤمن المساواة بين العارضين ما يقطع الطريق على المحسوبيات والاحتكارات التي تستفحل في الصفقات العمومية في لبنان.
فريق المعهد اللبناني لدراسات السوق