القدرة الشرائية للدولار تتراجع 26.6% في 2024

الشرائية

يقول البنك الدولي في تقريره الأخير عن لبنان، إن الأسعار بالدولار ازدادت بنسبة 4.9% بين أيلول 2019 وأيلول 2024، علماً بأن التراجع بلغ 26.6% في السنة الأخيرة وحدها. وفي المقابل، تشير أرقام إدارة الإحصاء المركزي إلى أن الأسعار بالليرة ارتفعت 5970% في المدة نفسها. هذه المقارنة تعيد تثبيت مفاعيل الانهيار المصرفي والنقدي الذي انتهى إلى الدولرة شبه الشاملة، والتي ستظهر تبعاتها الثقيلة على الاقتصاد تباعاً، وإن أصبح ممكناً استقراؤها مباشرة من المقارنة بين القدرة الشرائية للدولار وبين القدرة الشرائية للعملة المحلية


كان انهيار القدرة الشرائية من أكثر الأمور التي انعكست على معيشة الأُسر في لبنان بسبب انهيار قيمة العملة المحلية. إنما الأمر لم ينحصر بذلك، لأن الطبقة التي كانت تتلقى أجورها بالدولار، أو تلك التي كان لها فرصة التحوّل السريع نحو دولرة الأجور، لمست أيضاً تغييراً ما في قدرتها الشرائية. يوضح البنك الدولي هذا الأمر بالأرقام وبالتسلسل الزمني. يشير إلى أن القدرة الشرائية للدولار في لبنان انخفضت بنسبة 4.9% بين أيلول 2019 وأيلول 2024. علماً بأنه ضمن هذه المدة، ولا سيما في الأشهر الأولى من الأزمة، ارتفعت قوّة الدولار الشرائية بالتزامن مع مواصلة مصرف لبنان سياسة دعم السلع الأساسية والحيوية، ثم انخفضت لاحقاً حتى أصبحت أقل مما كانت عليه في 2019. وفي المقابل، كان التدهور في القوة الشرائية لليرة حاداً ومتسارعاً بشكل مفرط ومتزامن مع تآكل سريع للأجور بالليرة والتخلّي عن استعمالها في التبادلات التجارية.


القدرة الشرائية للدولار في السوق المحلية، هي أداة لقياس مستوى أسعار السلع في هذه السوق ربطاً بتقلبات مجموعة من الأكلاف المتعلقة بسعر الصرف. هي آلة قياس معقدة نسبياً، لكن أهميتها تكمن في تقييم فاعلية الاقتصاد المدولر على نطاق واسع تهيمن فيه العملة الأجنبية (الدولار) على غالبية التبادلات مثل الأجور والتجارة والضريبة وسواها. ففي سوق كهذه، تظهر المقارنة بين قوّة الدولار مقابل قوّة الليرة اللبنانية للدلالة على حدّة الأزمة والشكل الذي اتخذته بمرور الوقت، ولا سيما أن الانهيار المصرفي في النصف الثاني من 2019 امتدّ سريعاً ليصبح انهياراً نقدياً ثم اقتصادياً، وضمن هذا المسار انتقلت «الدولرة» من العمليات المصرفية إلى العمليات النقدية (الكاش). وفي هذه المدة أيضاً، تغيّر شكل الدعم الذي تقدّمه الدولة عبر مصرف لبنان، من دعم للعملة المحلية إلى دعم للسلع الأساسية. أيضاً تكمن أهمية هذه الآلة، أنها تقيس الأسعار بالعملة الأجنبية في سوق تطغى عليه السلع المستوردة التي يُدفع ثمنها بالعملة الأجنبية.
في ظل هذا الوضع، ما الذي توصّل إليه البنك الدولي؟ يقول البنك الدولي إنه في عام 2021 ازدادت القدرة الشرائية للدولار بنحو 54%، إلا أنه في الأعوام التالية حتى الآن، تراجعت القدرة الشرائية للدولار في السوق اللبنانية بنسبة 14% في 2022 و19.1% في 2023 و26.6% في 2024. فقد كان واضحاً أنه بعد اندلاع الأزمة، تحسنت القدرة الشرائية لحاملي الدولار بشكل ملحوظ، وزادت بنسبة 142.7% بحلول آب 2021 مقارنة مع أيلول 2019. فمقابل كل دولار في أيلول 2019، كان يمكن لحامل الدولار بحلول آب 2021 شراء سلع وخدمات بقيمة 2.43 دولار، بحسب البنك الدولي. وقد أسهم في هذا الأمر عاملان أساسيان؛ الأول هو استمرار مصرف لبنان في سياسة دعم استيراد السلع الحيوية حتى آب 2021، وهذا ما أفاد حاملي الدولارات بشكل كبير. أما الثاني، فيتعلق بأن سعر الصرف لم يكن متساوياً على معظم مكوّنات سلّة الاستهلاك، أي إن التغيرات في سعر الصرف لم تنعكس بوزن واحد على كل السلع.


يضع البنك الدولي شهر آب 2021 كنقطة تحوّل لمسار القدرة الشرائية لحاملي الدولار. ويُعزى هذا الارتفاع، بحسب البنك، إلى «الإزالة شبه الكاملة لدعم النقد الأجنبي (الوقود والأدوية، وبالتالي القمح؛ يرجى الرجوع إلى تواريخ إزالة دعم الوقود والأدوية)»، والأهم من ذلك «الدولرة التدريجية لمكوّنات سلّة مؤشّر أسعار المستهلك، وخاصة الخدمات المحلية مثل النقل والتعليم والرعاية الصحية والإسكان والمياه والكهرباء والغاز والوقود الآخر (بما في ذلك الإيجارات)». وفيما ازداد الحديث عن انعكاس دولرة الأسعار على ارتفاعها، حتى قياساً بالدولار، أصبحت الأرباح تُقاس أيضاً بالدولار ما أتاح زيادتها بسهولة. وأخيراً، يتحدث البنك الدولي عن أن الزيادات غير الخاضعة للرقابة في الأسعار للتحوّط ضدّ أي انخفاض مستقبلي لسعر الصرف في السوق، أسهمت بشكل كبير في ارتفاع الأسعار حتى بالدولار.

هذه الخسارة للقدرة الشرائية للدولار، من منظور البنك الدولي، هي متواضعة قياساً على الخسارة التي أصابت القدرة الشرائية لليرة اللبنانية. فالأسعار بالليرة ارتفعت بنسبة 5970% بينما الزيادة في الأسعار بالدولار لا تتخطى الـ4.9%. لكن تتراجع أهمية هذه المقارنة في ظل الدولرة، لأن معظم الأجور في لبنان، في ما عدا أجور القطاع العام، تحوّلت إلى الدولار، ولم يعد هناك قيمة للحديث عن انخفاض القدرة الشرائية لليرة التي لم تعد تلعب إلا أدواراً بسيطة من أدوار العملة.
رغم ذلك، ما زالت الأسعار تواصل الارتفاع بشكل ثابت وحاد نسبياً، وهذا مؤشّر على أن سعر الصرف لم يعد العامل الأساسي في ارتفاع الأسعار مع استقراره بشكل شبه ثابت منذ منتصف 2023. إزاء ذلك، تُثبت الوقائع، أن خيار دولرة الأسعار كان خياراً كسولاً، إذ كان الخيار الأسهل، لكن تبعاته الثقيلة بدأت تظهر ضمن المدى المتوسط وسيكون وقعها أشدّ على المدى الطويل، فانخفاض القدرة الشرائية للدولار لا ينعكس فقط على الظروف المعيشية في البلد، بل يسهم في ارتفاع كلفة الإنتاج وهو ما يسهم في ابتعاد الاستثمار عن الاقتصاد، ويضعف احتمالات النمو الاقتصادي المستقبلي.

اضغط هنا لقراءة المقال على موقع جريدة الأخبار