ليس غريباً، في ظل التفكُّك المتدحرج للدولة اللبنانية وتحلُّل مؤسساتها، الواحدة تلو الأخرى، بشكل لم يعد خافياً أنه ممنهج ومتعمَّد من قبل القابضين على زمام السلطة، المنظورين والمستورين، وليس آخرها ما يحصل في القضاء، أن يتواصل الارتفاع المضطرد لسعر الدولار في سوق الصرف.
هذا علماً أن هذه السوق تسمَّى “مجازاً” السوق السوداء، بينما باتت بالفعل تعكس السعر الحقيقي للدولار، بعيداً عن سعر رسميّ من هنا وسعر منصة من هناك، وإجراءات وقرارات متخبِّطة عشوائية وفوضوية تتَّخذها السلطات النقدية والمالية كلّ فترة.
عند مباشرة الإعداد لهذا المقال، مساء أمس الأربعاء، كان سعر الدولار في السوق الموازية تخطَّى عتبة الـ62.000 ليرة، وصولاً إلى حوالي 62.500 ليرة، للمرة الأولى، فيما العاملون في السوبرماركت والمحال التجارية على اختلافها يتصادمون في ممّراتها، لاهثين خلف سعر الدولار المتغيّر على مدار الساعة، لتبديل الأسعار على الرفوف.
تحليلات المراقبين والأخصائيين، في معظمها، “تُبشِّر” باقتراب لحظة الارتطام ونقطة اللاعودة، طالما لا تزال السلطة المتسلِّطة على مسارها ونهجها المدمِّرَين، رافضةً القيام بأي خطوة إصلاحية إنقاذية جدّية في الاتجاه المطلوب، بل نراها تزيد إمعاناً في سلوكها التدميريّ المشبوه. في حين، إن حالة نحو 80% من العائلات اللبنانية، المسحوقة تحت وطأة الانهيار الاجتماعي والاقتصادي الذي يبدو بلا قعر، كانت لتُدمي قلوب المسؤولين في أي دولة، بينما هي لا ترفُّ رمشاً لـ”تماسيح السلطة” عندنا.
رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق باتريك مارديني، يوضح، في حديث إلى موقع القوات اللبنانية الإلكتروني، إلى أن “تداعيات وصول الدولار إلى حوالي الـ62.500 ليرة، تعني مزيداً من انهيار القدرة الشرائية للشعب اللبناني، الذي يفتقر أكثر فأكثر مع كل صعود للدولار لأن معظم المداخيل بالليرة اللبنانية. بالتالي، كلّما ارتفع سعر الدولار، كلّما انخفضت القدرة الشرائية وقيمة المداخيل”.
أما إلى أين يمكن أن نصل؟ يؤكد مارديني، “ألا سقف لارتفاع الدولار ولا قعر لانهيار الليرة، طالما السياسات المتَّبعة مستمرة. والمقصود أن المصرف المركزي لا يزال يضخّ كميات من الليرة في التداول بشكل كبير جداً، وكلّما ازدادت كميات الليرات بين أيادي الناس ستستعملها لشراء الدولار”، لافتاً إلى أنه “خلال الأشهر الستة المنصرمة تضاعفت الكتلة النقدية في السوق، وضُرب حجمها بـ(2). بالتالي من الطبيعي أن يرتفع الدولار”.
وبالإضافة إلى التداعيات الاجتماعية والمعيشية، يشير مارديني، إلى أن “الانهيار المتواصل لسعر الصرف، يؤدي إلى عدم استقرار اقتصادي ويزيد من الركود القائم. فلن تأتي استثمارات إلى لبنان طالما سعر الصرف غير مستقر. فإن كان المستثمر لا يعلم على أي كلفة سيُنتج بضاعته في لبنان وعلى أي كلفة سيبيعها، لن يدخل ويوظِّف أمواله في البلد. بالتالي، طالما لا استقرار لسعر الصرف لن يكون لدينا إعادة إطلاق للعجلة الاقتصادية”.
ويرى مارديني، أنه “من الواضح أن المعنيين يُكملون على نهج تسييل الأزمة، أي طبع الليرة لتسكير الفجوة، وهذا يعني انهياراً متواصلاً وطويل الأمد”، معتبراً أن “التعاميم الأخيرة لمصرف لبنان حول السحوبات من الودائع بالعملة الأجنبية على سعر 15 ألف ليرة للدولار، تهدف إلى توحيد أسعار الصرف الرسمية. أي كان لدينا سعر الـ8.000 ل.ل. والـ12.000 ل.ل. بينما اليوم هناك سعر الـ15.000 ل.ل. الموحَّد”.
ويلفت، إلى أن “مصرف لبنان يحاول ضبط هذه العملية. بمعنى أنه صحيح رفع سعر دولار السحوبات من 8.000 ل.ل. إلى 15.000 ل.ل، لكنه خفَّض سقف السحوبات الشهرية من 3.000 دولار إلى 1.600 دولار. بشكلٍ، أن كميات الليرات التي يسحبها المودع من وديعته بالدولار تبقى على المعدلات ذاتها تقريباً، لكي لا تؤثِّر كثيراً على التضخُّم”.
لكن مارديني، يعتبر أنه “بالمجمل، التعاميم الأخيرة التي صدرت عن البنك المركزي، ستزيد من كميات الليرة في التداول، ما سيؤدي إلى مزيد من انهيار سعر الصرف”، لافتاً إلى أنه “يمكن أن يقوم مصرف لبنان بضخِّ بعض الدولارات لمنصة صيرفة أوائل الأسبوع المقبل لتهدئة اللعبة قليلاً، لكن ذلك لا يعني أن الدولار سيوقف مساره التصاعديّ. وفي اللحظة التي يوقف فيها المصرف المركزي ضخّ الدولار، سيرتفع من جديد”.
ويشدد، على أن “البنك المركزي هو الوحيد القادر على وقف انهيار سعر صرف الليرة وارتفاع الدولار، إذا أوقف طباعة الليرة. بالتالي، ليوقف الحاكم رياض سلامة طباعة الليرة اليوم، يتوقف ارتفاع الدولار”.
ويوضح، أن “المشكلة في استمرار سلامة بطباعة الليرة، لكون الحكومة تطلب منه تمويل عجزها، لأنها تصرف من دون حسيب ولا رقيب في حين لا أموال لديها، ومصرف لبنان يقوم بطباعة الليرة لتغطية العجز. بالإضافة إلى أن المصارف وضعت دولاراتها في المصرف المركزي وهو عاجز عن إعادتها لها. بالتالي يقوم بإعادة الدولارات للمصارف بالليرة، التي تقوم بدورها بتسحيب المودعين لودائعهم بالعملات الأجنبية بالليرة اللبنانية، بموجب التعاميم التي يصدرها”.
وينوِّه، إلى أنه “طالما طباعة الليرة مستمرة، وطالما لا نقوم بحلّ الأزمة في مالية الدولة والأزمة المصرفية ونقوم بتمويلهما عن طريق التضخُّم، سيستمر التضخُّم في الارتفاع وسيتواصل انهيار الليرة”.
ويؤكد مارديني، أن “الطلب المرتفع على الدولار يأتي من حَمَلة الليرة الذين يتهافتون على الصرافين لشراء الدولار، لأننا حين نقوم بضخّ ليرة للمواطن يُترجم في النهاية طلباً على الدولار”، مشدداً على أن سبب الطلب على الدولار هو العرض المتمادي للّيرة، وإذا قمنا بضبط كمّية الليرة وأوقفنا طباعتها تنتهي الأزمة النقدية فوراً”.
لكن للأسف الشديد، يضيف مارديني، “هناك خيار سياسيّ لدى الحكومة اللبنانية بعدم القيام بأي إصلاحات أو بوقف نفقاتها المتضخِّمة، وتريد الاستمرار في تمويل النفقات عن طريق انهيار سعر صرف الليرة. فضلاً عن خيار سياسي آخر بعدم الاعتراف بالخسائر المصرفية لتجنُّب تصفية القطاع المصرفي، وتمويل هذه الخسائر من خلال طباعة الليرة. وطالما استمر هذا النهج سيستمر انهيار الليرة”.