لماذا فشلت تجربة “كلنا وطني” وأي وجهة للمستقبل؟

لماذا فشلت تجربة “كلنا وطني” وأي وجهة للمستقبل؟

انتهت الانتخابات النيابية واستفاق الحراك المدني على خيبة أمل، إذ لم يتخطَّ مجموع أصوات تحالف “كلنا وطني” الـ 40000 صوت على مستوى لبنان أي بمعدل 590 صوتاً للمرشح وذلك على الرغم من بعض استطلاعات الرأي التي أشارت قبل الانتخابات إلى أن نحو ربع ناخبي لبنان مستعدون للتصويت للوائح المدنية. وقد فشل الحراك برفد لوائحه من بعض من تحمس في السابق للشعارات والمطالب ونزل إلى الشارع لمواجهة النفايات والضرائب، كما لم ينجح في رفع نسبة الإقبال على الاقتراع، والتي انخفضت مقارنة بالعام 2009. يتجه بعض الناشطين إلى إلقاء اللوم على الناخب، فيتهمونه بالخضوع لنفوذ الأحزاب والزعامات وبالتجاوب مع سياسة التوظيف والزبائنية والطائفية بدلاً من تبني برنامج ينقذ الوطن. فما هو برنامج “كلنا وطني” الذي كان بمقدوره إنقاذ الوطن؟ ولماذا لم ينجح في اجتذاب الناخبين الذين فضلوا توجهات أخرى؟

 

في الحقيقة لم ينجح الحراك في تأطير برنامج انتخابي واضح ومفهوم، ذلك لأن المجتمع المدني، على عكس الحزب السياسي، لا يجمع ناخبيه حول مبادئ أو عقيدة أو هوية مشتركة أو إصلاحات سياسية واضحة ومحددة، بل يتميز بتنوع واسع بين مختلف فصائله ويختلف أفراده في المواضيع كافّة. فمنهم من يُعتبَر امتداداً للحركات الماركسية والحزب الشيوعي والنقابات العمالية، ومنهم من ينتمي بأفكاره إلى برجوازية ليبرالية متعولمة، ومنهم من يزدري الطوائف والأديان ويريد فرض علمانيته قسراً، ومنهم من يعتبر الأديان مصدر غنى ويحترم التدين، ومنهم من يعتبر رجل الأعمال الناجح مثالاً يحتذى به وبطلاً يوجد فرص عمل وسلعاً وخدمات، ومنهم من ينعت رجل الأعمال بالسارق والفاسد ويحلل مصادرة أمواله وممتلكاته واستعمالها لمساعدة الفقير. وإذا أضفنا إلى هذا المزيج المواضيع السياسية المحلية، فإنّ التنوع أكبر والاختلاف أوسع. لذا ينبغي تحديد القاسم المشترك بوضوح، وإلا فسيفترض الناخب أن الجامع الوحيد لهذه الفصائل المتضادة هو إشباع رغبة البعض في الوصول إلى السلطة، ما يؤدي حتماً إلى عزوفه عن انتخابها. لذا أطرح هنا هدفين يمكن أن تتوافق عليهما فصائل المجتمع المدني بأسرها من يمينه إلى يساره:

أولاً، قانون الاستفتاء الشعبي (Initiative and Referendum) الذي يعطي المواطن اللبناني الحق في تقرير مصيره. وينص هذا القانون على السماح للشعب بـ:(1) اقتراح قوانين على التصويت الشعبي و(2) إجراء استفتاء شعبي ملزم على القوانين المطروحة. مثلاً، إذا أراد فصيل أن يقترح قانون الزواج المدني فسيكون عليه أولاً أن يحصل على عدد من التواقيع للعريضة (20000 توقيع مثلاً). عندها يطرح قانون الزواج المدني على التصويت الشعبي خلال مهلة محددة وتكون نتيجة هذا التصويت ملزمة للحكومة. وإذا أرادت بلدية ما شق طريق وعارضها الأهالي، يتبع هؤلاء المراحل ذاتها لإجراء استفتاء شعبي لنقض المشروع على مستوى البلدية هذه المرة.

ويعطي وجود قانون كهذا فرصة لأي فصيل بالوصول إلى أهدافه عبر مناصرة واضحة الإطار بدل اعتماد وسائل ضغط غير ملزمة مثل التظاهر والاعتراض على وسائل التواصل الإلكتروني وقطع الطرقات وغيرها. كما يؤمّن قانون الاستفتاء الملزم حلّاً عمليّاً ومقبولاً للأحزاب السياسية، إذ يشكل سبيلاً سلمياً وديموقراطياً لفض النزاعات داخل الحكومة. فإذا ما اختلف وزراء على جدوى استقدام سفن لتوليد الطاقة الكهربائية مثلاً، يمكنهم فض الخلاف عبر اللجوء إلى الاستفتاء الشعبي الملزم بدلاً من التناحر لسنوات. وإذا ما تساءلت بلدية عن مدى قبول قاطنيها لاستقدام معمل تفكك حراري للنفايات، فما عليها إلا اللجوء إلى الاستفتاء الملزم على المستوى البلدي.

ثانياً، الفرعية في اتخاذ القرارات (Principle of Subsidiarity) أي إن القرارات ينبغي أن تؤخذ عند أدنى مستوى ممكن أو الأقرب إلى حيث سيكون تأثيرها. ويبدأ الحل لأي مشكلة على مستوى الفرد، وإذا تعثر ننتقل إلى الأسرة فالجمعيات فالبلدية فالمحافظة فالبرلمان والحكومة أخيراً. مثلاً، تعود معالجة النفايات المنزلية لكل منزل أولاً، فيتعاقد مع شركة لجمع النفايات من منزله مقابل بدل مادي. وقد تعرض عليه الشركة جمعها مجاناً إذا ما كانت النفايات مفرزة، كما يحصل في العديد من البلدان. ولا يحق للحكومة فرض مشيئتها ورمي نفايات لبنان كله أمام شاطئ بلدة ما أو في أوديتها ومجاري أنهارها لأن قراراً كهذا يعود للبلدة.

ويشجع مبدأ الفرعية الناس على تحسين أوضاعهم بأنفسهم فيتحملون مسؤولية قراراتهم وبيئتهم، كما يسمح بتنوع الحلول. فقد تقرر بلدية مثلاً تقديم قطعة أرض لشركة طمر بينما تقرر أخرى التعاقد مع شركة تقوم بالفرز وإعادة التدوير وتقوم أخرى بالفرز من المصدر، إلخ. فتتعلم البلديات من تجارب مثيلاتها وبعد التجربة والبرهان تصل جميعها إلى الحلول التي تناسب سكانها. ويريح مبدأ الفرعية الأحزاب السياسية من عبء تقديم الخدمات ويستطيعون أخيراً تركيز جهودهم على السياسة والتشريع. فلا يمكن لاي وزير معرفة حاجات كل البلدات والمدن أكثر من أهلها. وحتى لو عرفها، فليس بإمكانه تنفيذ متطلباتها جميعا لأنها غالباً ما تكون مختلفة ومتناقضة، هذا إذا ما تأمنت الموارد لها أصلاً. كما يحد مبدأ الفرعية من الزبائنية ويؤمن الإنماء المتوازن بين المناطق ويشكل أساساً للحوكمة الرشيدة.

ويسمح الاستفتاء الشعبي والفرعية بإعادة المواطن إلى سدة القيادة وإعطائه الفرصة بالمبادرة وتحسين أوضاعه وفض النزاعات السياسية وإبداء رأيه بالقوانين التي يعيش في ظلها. كما يحمي الأفراد والجماعات والمجتمعات الصغيرة من التعدي عليها ويضع أسساً قانونية لضمان الحرية والسلامة وتكافؤ الفرص والعيش الكريم. وهو كذلك يشكل قاعدة لتلاقي مختلف أطراف المجتمع المدني على مناصرة وضحة المعالم والنتائج. فإذا ما نجحوا في إقناع القوى السياسية باعتماد هذه القوانين، فيمكننا حينها التغني بوجود مجتمع مدني فاعل في لبنان. أما إذا فشلوا، فعندها يمكنهم تشكيل حزب سياسي وخوض الانتخابات على أسس وأهداف تشريعية موحدة وواضحة.