تعيش الدولة ال#لبنانية في دوامة تأمين إيرادات إضافية لخزينتها المثقوبة أصلاً بفعل الهدر والفساد المستشري في إداراتها ومؤسّساتها، فلا تفوّت وسيلة لـ”لمّ” الأموال كيفما كان وسط تخبّط في قراراتها التي يعتبرها البعض غير منطقية وخصوصاً إذا جاءت في غير مصلحة التجار والمستفيدين من غياب الرقابة والمحاسبة الجدية.
ولعل القرار الذي أرسله وزير المال في حكومة تصريف الأعمال يوسف خليل الى إدارة الجمارك بأنه “بدءاً من 17 الجاري سيتمّ استيفاء الضرائب والرسوم الجمركية بكافة أنواعها ومسمّياتها 50 في المئة نقداً بالعملة اللبنانية كحدّ أدنى و50 في المئة بموجب شيك مصرفي بالعملة اللبنانية كحدّ أقصى”، يترجم حال “الكرّ والفرّ” بين الدولة التي تحتاج حتى الى “فلس” الأرملة وبين بعض القطاعات التي تستغل مصائب اللبنانيين لتجني الأرباح على حسابهم، بدليل أن ثمة إحصاءات تبيّن أنّ تجارة الشيكات المصرفية في لبنان ناشطة من بعض القطاعات لتسديد ضرائبهم للدولة فيما هم يتقاضون الفريش من زبائنهم.
في خلفيات القرار، تؤكد مصادر متابعة أن شركات النفط والتجار عموماً (باستثناء #السوبرماركت) تستوفي كامل ثمن مبيعاتها نقداً، بينما تسدّد الضرائب الجمركية وضريبة الدخل والـTVA وغيرها من خلال شيكات مصرفية أو تحاويل إلكترونية غير نقدية عبر المصارف، وتبيع هذه الشركات النقد المتوافر لديها والذي حصلت عليه عند بيعها المحروقات والسلع والإلكترونيات وغيرها لشراء شيكات مصرفية، محققة بذلك نسبة أرباح عالية (بلغت نحو 20% أخيراً).
لذلك اتخذ هذا القرار من #وزارة المال، من “أجل المصلحة العامة ولوقف الأرباح غير القانونية التي تُحقَّق على حساب خزينة الدولة”، علماً بأن القرار وفق ما تقول المصادر “مدروس ولم يفرض تسديد كامل الضريبة الجمركية نقداً، بل نصفها والباقي شيكات لمن يرغب في استخدام حسابه المصرفي لتسديدها، أما الأمور اللوجستية فقيد المعالجة”.
وما إن صدر القرار حتى أعلنت نقابة أصحاب السوبرماركت في لبنان أنها سوف تضطر “آسفة” لوقف قبول البطاقات المصرفية في حال تطبيق القرار، موضحةً أنّ “هذا القرار سيحول دون تمكّن أصحاب السوبرماركت من استخدام الأموال المقبوضة عبر البطاقات المصرفية في دفع الرسوم وما يترتب عليها للموردين، أي إن هذه الأموال ستبقى محتجزة في المصارف من دون أي قدرة على استخدامها”. وطالبت “بالتراجع عن هذا القرار في أسرع وقت لوقف الضرر عن المؤسسات والمواطنين على حد سواء”.
من جهته، يرى العضو في المجلس الاقتصادي الاجتماعي، عدنان رمال في حديثه لـ”النهار” أنّ هذا القرار “خطير”، لأسباب عديدة، و”كأنّ الدولة تقول للناس إنّ أموالكم بالليرة في المصارف لم تعد بقيمتها الفعلية، فقيمة الحسابات بالليرة اللبنانية في المصارف ستنخفض لأنّ قيمة العمولة على الليرة اللبنانية سترتفع”، ويسأل “ليس مفهوماً كيف للدولة أن تطلب الليرة اللبنانية نقداً”.
وسيناريو الدولار الفريش ودولار المصارف، يتكرّر الآن مع الليرة وفق هذا القرار، بحسب رمال، لكن “الفريش ليرة” هو أمر غير مسبوق في تاريخ الأزمات الاقتصادية، والخطورة أنّه يُطبَّق على العملة الوطنية.
ووفق هذا القرار، يشرح رمال أنّ عمولة الشيكات المصرفية سترتفع، وسيضطر التجار إلى صرفها لدى الصرافين في السوق السوداء للحصول على الليرة نقداً. و”ليس مفهوماً كيف يقول القطاع الرسمي للمواطن أنت صاحب حساب في المصرف لكن لا يمكنك أن تدفع منه بل عليك التسديد نقداً فقط؟” يستغرب رمال، مشدداً على أنّ “التمييز بالأموال بالليرة اللبنانية الموجودة في المصارف، أمر في غاية الخطورة”.
كذلك، سينعكس القرار على المواطن الذي جزء من نفقاته عبر البطاقة المصرفية. فكافة السوبرماركت والمؤسسات التي تتقاضى بالليرة اللبنانية اليوم جزء من مدفوعات زبائنها هو عبر البطاقات الائتمانية أو الشيكات بالليرة. لذا، ستزيد الكلفة على المواطن. وفي الوقت نفسه، سينعكس القرار سلباً على الاقتصاد لأن جميع أموال الشركات والمؤسسات والأفراد الذين لا يزالون يستخدمون حساباتهم في المصارف، لن يتمكّنوا من ذلك بعد الآن، بحسب رمال. إضافة إلى احتمال توقّف المؤسسات والشركات عن تقاضي إيراداتها عبر البطاقات أو الشيكات المصرفية. كذلك، سيزيد القرار من كلفة نفقات المؤسسات، التي تعاني أصلاً بحيث تراجعت مبيعاتها 70 في المئة، بالتالي، ستزيد الأكلاف على المواطن وعلى السلع والبضائع.
وبرأي رمال، مبرِّر هذا القرار قد يكون “لمّ الليرات” لتقليص الكتلة النقدية بالليرة. لكن في الوقت نفسه، الدولة تضخّها عبر رواتب في القطاع العام. وما دامت الدولة تقوم بذلك من خلال طبع الليرة لا من خلال الإنتاج، فسنكون أمام تضخّم إضافي بالكتلة النقدية.
ولغاية ما قبل صدور هذا القرار، كان على الشركات المستورِدة تسديد رسومها الجمركية على سعر 15000 ليرة، وكان يمكنها تسديدها عبر الشيكات المصرفية. لكن مع هذا القرار، فإنّ تأمين “الكاش” ونقله بمبالغ ضخمة بالليرة، هو أمر “خطير أمنياً”، على ما يقول رمال.
في سياق متّصل، يوضح مصدر متابع لـ”النهار”، دافع القرار، أنّ جميع مدفوعات الدولة، على مصرف لبنان أن يدفعها نقداً وجميع مداخيل الدولة قائمة على التحويلات دون النقد. لذلك، يحاول مصرف لبنان، بالتعاون مع وزارة المالية، عبر هذا القرار، أن يكون جزء من تسديد الضرائب نقداً بالليرة، خصوصاً أنّ الناس يسدّدون ثمن عدد كبير من السلع بالليرة نقداً، و”الضريبة هي من ضمن السعر الذي يدفعه المواطن، وعلى التجار أو المستورِدين تسديدها للدولة نقداً كما يتقاضونها من المواطن، وهم قادرون على تحمّل نصف الضريبة الجمركية نقداً لكن ربحهم سيقلّ”.
وفيما يشرح المصدر أنّ التجار يقومون بالسرقة “على عينك يا تاجر”، يعطي كامل الحق لأصحاب السوبرماركت لكونهم يقبلون تسديد نصف ثمن المدفوعات بالبطاقات الائتمانية. لكن رغم ذلك، فإنّهم يدفعون الضريبة على القيمة المضافة عبر الشيكات المصرفية بالكامل، وكذلك ضريبة الدخل لموظفيهم والضمان، إضافة إلى رسوم الإنترنت والتلفون ونصف الضريبة الجمركية عبر الشيكات المصرفية. أي إنّ كل ما أُضيف على نفقاتهم الضريبية هو نصف الضريبة الآخر، الذي يُفترض أن يسدّدوه نقداً وفق قرار الوزير.
ويؤكّد المصدر أنّ “هناك اتجاهاً لإعادة النظر في القرار عبر بحث بعض الاستثناءات في هذا القرار لقطاعات معيّنة، واحتمال تجميد القرار وارد أيضاً، لكن إلغاء تسديد جزء الضريبة نقداً ليس وارداً”.
وبرأي المصدر، لا يمكن تقاضي المبالغ نقداً بالليرة وتسديد الضريبة الجمركية بالشيكات للدولة. وبينما أصحاب السوبرماركت يتقاضون نصف إيراداتهم نقداً من الزبائن، بالتالي، لا يمكن لتجار المواد الغذائية والاستهلاكية، التقاضي بالليرة وتسديد الضريبة الجمركية عبر الشيكات. هناك سلع لا يمكن تسديد ثمنها بالبطاقة، كالمحروقات والأجهزة الإلكترونية. لذلك، يمكن لقرار الوزير أن يُطبّق على الأجهزة الإلكترونية والسيارات والكماليات والمشروبات الروحية والدخان والمحروقات، وهي سلع تشكّل جزءاً كبيراً من الاستيراد. ويلفت إلى أنّ “هناك إحصاءات تدلّ على أنّ تجارة الشيكات المصرفية في لبنان يقوم بها أصحاب محطات المحروقات لتسديد ضرائبهم للدولة”.