الانتظام المالي وهيكلة المصارف: مشاريع الوقت الضائع في زمن الفراغ

الانتظام المالي وهيكلة المصارف: مشاريع الوقت الضائع في زمن الفراغ

كثيرة هي مشاريع القوانين، واقتراحات الحلول للأزمة الإقتصادية، التي تدفقت الى المجلس النيابي، وعبر المؤتمرات المتخصصة، ووسائل الإعلام، ومراكز الدراسات المتنوعة، وكلها تصب في اطار سعي نواب، وسياسيين، ومتخصصين في الشأنين المالي والمصرفي، لوضع تشريعات وأطر تنظيمية، لإعادة الانتظام المالي إلى سابق عهده، وهيكلة القطاع المصرفي، وتنقيته من رواسب الأزمة التي أصابته شظاياها بجروح بالغة، وبغية وضع الإطار الاصلاحي الإقتصادي والمالي على سكة الشروط والمقترحات التي رسمها صندوق النقد الدولي للبنان للحصول على رضاه وعطاياه.

الاقتراح الأخير الذي حطّ في لجنة المال والموازنة موقّع من النائبين جورج بوشكيان وأحمد رستم تحت عنوان “إقتراح قانون إطار لإعادة التوازن للإنتظام المالي في لبنان”. والغريب في الخطوة، تقديمه في ظل الفراغ الرئاسي الذي يحول دون تصويت حكومة تصريف الأعمال والمجلس النيابي على اي مراسيم ومشاريع قوانين. والأغرب الملتبس، أن اقتراح بوشكيان ورستم، يبدو أنه نسخة مشابهة عن مسودة مشروع القانون الذي كان يفترض أن تقره الحكومة قبل تحوّلها إلى تصريف الأعمال، والذي يترجم خطتها المالية والإقتصادية، وكيفية توزيع نِسب الخسائر واسترداد الودائع.
لكن يبدو أن إطار الحل الذي يقدمه مشروع القانون هذا، لا يملك أدنى مقومات الجدية والواقعية، فيما العديد من مواده تحتاج الى تعديلات أو “نسف”، وفق ما أكدت مصادر لجنة المال والموازنة، ويأتي في سياق سياسة ملء الفراغ والوقت التي تتوافق مع مشهد الفراغ العام في البلاد الذي وضع من جهته تفاهم لبنان مع صندوق النقد في الثلاجة.
مستشار رئيس الحكومة الدكتور سمير الضاهر يؤكد أن مشاريع القوانين والاقتراحات التي قُدمت تأتي في سياق وضع الامور المالية والاقتصادية على السكة، ومنها “قانون اعادة هيكلة المصارف الذي كنا اتفقنا عليه مع صندوق النقد لتعافي القطاع المصرفي. وهذا المشروع يحتم على كل مصرف تقديم خطة عمل لـ 3 سنوات، وكيفية التزامه بالمعايير الائتمانية لبازل وتأمينه السيولة والملاءة ونظرته الى القروض المتعثرة”، لافتا الى أن “ثمة مصارف لن يكون في امكانها الامتثال، وتاليا سيصار الى تصفيتها، وثمة مصارف حالتها أفضل سيتم دمجها بمصارف أخرى، وأخرى قابلة لاعادة الهيكلة”.
أما الإقتراح الذي يدرس حاليا في لجنة المال والموازنة، فقد طرح الاطار لإعادة التوازن الى المصارف وسيتم بحثه بطريقة مفصلة أكثر، وسيركز على كيفية التعامل مع الودائع، واي ودائع ستكون مضمونة، اضافة الى موضوع صندوق استعادتها.
إقتراح القانون وفق ما يقول ضاهر يلحظ سداد الودائع التي لا تتجاوز قيمتها المئة ألف دولار والمدرجة ضمن خطة التعافي، أما الودائع التي تتجاوز قيمتها المئة ألف دولار، فهناك أمران مطروحان: قسم يُسدد بالليرة اللبنانية على سعر الصرف الحقيقي بعد توحيد سعر الصرف، أما القسم الآخر فيحوّل من وديعة إلى أسهم في المصارف القابلة للاستمرار.
ويتحدث ضاهر عن موضوع شراء الشيكات بما يوازي نحو 12% من قيمة الشيك ووضعه في حساب الشاري. ويسأل: هل من العدالة احتساب المبلغ بكامله له؟ وكذلك يلفت الى الفوائد الكبيرة التي حصل عليها المودعون نتيجة الهندسات المالية منذ العام 2015، مشيرا في سياق آخر الى اهتمام كبار المودعين باسترجاع أصل الوديعة والتخلي عما يسمى فائض الفوائد المستحقة التي تم دفعها منذ سنة 2015.
النائب مارك ضو يلفت الى ان النائبين بوشكيان ورستم قدما اقتراحين: الاول يتعلق بالانتظام المالي أو ما تصحّ تسميته بـ”قانون التنظيف وكيفية توزيع الخسائر”، والثاني يتعلق باعادة هيكلة القطاع المصرفي، وتم تشكيل لجان فرعية لدراستهما.
ضو الذي أشار الى أن “بعض النواب هم ضد مقاربة الصندوق التي تتحدث عن شطب الديون المتوجبة من مصرف لبنان للمصارف ومن الدولة لمصرف لبنان”، قال: “اذا لم نشطب الديون لا يمكننا المضي قدماً وسيبقى كل شيء عالقا، وتاليا لا يمكن لأي جهة (الدولة، مصرف لبنان، المصارف) أن تسدد للأخرى”. وإذ شدد على أن “المديونية العامة للدولة يجب ألّا تتخطى الـ 20 مليار دولار”، لفت في المقابل الى أن “قيمة سندات اليوروبوندز تناهز الـ 31.5 مليار دولار، لذا من الاهمية تخفيف المديونية العامة الى مستوى مقبول لكي يكون في امكان الدولة الاستمرارية والاستدانة”.
وفيما ينص اقتراح قانون #التوازن المالي على تكوين صندوق استعادة الودائع، سأل ضو: من أي مداخيل ستتم اعادة هذه الودائع؟ فصندوق النقد يؤكد أن مداخيل الدولة وقدرتها الضريبية وقدرة الشعب على السداد بالكاد تكفي للمحافظة على موازنات فيها توازن من دون عجوزات. اما واردات الدولة حاليا فتتلخص في الكهرباء والمياه والخليوي، وتاليا لا يمكن القول بردّ الودائع من خلال هذه الواردات، علما أن الاقتراح يؤكد ان هذه الواردات هي المداخيل الاساسية للدولة في المرحلة الاولية، وعندما يصبح هناك نمو ومداخيل ضريبية كافية إذذاك يمكن وضع الاموال في صندوق استعادة الودائع، وهو أمر مشكوك في حصوله، برأي ضو الذي يبدو مقتنعا بأن “ثمة سياسة استراتيجية ضمن بعض اركان الدولة اللبنانية ضد سياسة الصندوق بالمطلق، وهي مقتنعة بأنها يمكن أن تعالج المشكلة من تدخله، لذا قاموا بتفشيل خطة لازار، ومشروع الكابيتال كونترول وغيره، وسيعملون على تذويب الودائع وافقادها قيمتها بالحد الاقصى الممكن لتصغير حجم المشكلة قدر المستطاع ليكون في الامكان الاستمرارية من دون اصلاح”.
يبدو من نظرة سريعة الى الاقتراح أنه يشبه إلى حد كبير مشروع قانون “إعادة التوازن للنظام المالي في لبنان”، خصوصا حيال الأهداف من إعادة هيكلة المصارف ورسملة مصرف لبنان، مع بعض التعديلات الطفيفة لتتناسب مع وروده على شكل اقتراح قانون وليس مشروع قانون. وهو ما أكده رئيس مؤسسة “جوستيسيا” الحقوقية المحامي الدكتور بول مرقص الذي أشار الى أنه “يتبين من المادة الأولى من اقتراح القانون أن الفجوة المالية في مصرف لبنان ستتحملها المصارف من خلال تقليص توظيفاتها لدى مصرف لبنان، علما أن هذه الفجوة هي مسؤولية الدولة اللبنانية وليس القطاع الخاص”.
واعتبر أن “الاقتراح مجحف بشكل كبير تجاه أصحاب الودائع التي تفوق الـ100 ألف دولار حيث إنه ينتقص من ودائعهم ويحدّها من دون معرفة مصير باقي رصيدهم، فالذي يملك مثلا 5 ملايين دولار في حسابه المصرفي سيحصل على 100 ألف دولار”، معتبرا أن “على الدولة قبل تحميل المودعين والمصارف الخسائر كلها أن تضع جدولا وتحدد الآلية التي ستعتمدها لدفع سندات اليوروبوندز حيث فشلت حتى اليوم في بدء التفاوض بشأنها متسببة بمزيد من الخسائر للقطاع المصرفي من دون أن تتحمل أي جزء من المسؤولية”. مع الإشارة إلى أن Exposure المصارف (الخسائر) هي بالدولار الأميركي، وقد كانت تُحتسب على أساس سعر الصرف الرسمي للدولار الأميركي 1507 ليرات، إلا أنه وفقا للاقتراح سيُحتسب على أساس سعر 15000 ليرة، بما يعني تضاعف خسائر المصارف 10 مرات أكثر.
بالنسبة الى خصم الفوائد التي حصل عليها المودعون من المصارف، يرى مرقص أن “من غير القانوني والمنطقي أن يقوم المودعون بإعادتها، فنسبة الفوائد المرتفعة التي كانت المصارف اللبنانية تدفعها للمودعين، والتي تعدت الـ15 في المئة في بعض الحالات، كانت الدافع الأول لكل مودع لوضع أمواله في المصارف. فالنشاط المصرفي يقوم على المصرف الذي يقترض الأموال من المودعين باستخدام الأموال المودعة لإقراض العملاء الآخرين. بدوره، يدفع المصرف للمودع فائدة على رصيد حسابه، فكان من الممكن للمودع أن يقوم باستثمار أمواله لدى غير المصارف في مشروع يكسب من جرائه أو ادخارها حتى للمستقبل”.
الاقتراح يشير الى تحويل الودائع غير المؤهلة لدى المصارف القابلة للاستمرار الى الليرة اللبنانية (lirafication) على أساس سعر صرف أقل من سعر منصة “صيرفة” وفقا لآلية ومعايير موحدة تحددها الهيئة المصرفية العليا بصفتها الهيئة المختصة بإعادة هيكلة المصارف. لكن مرقص يلاحظ أنه “تم استحداث مصطلح لا وجود له قانونا تحت مسمى “الليلرة “Lirafication” ، وذلك لتبرير عمليات تحويل الودائع إلى الليرة اللبنانية”، منتقدا “توسيع صلاحيات الهيئة المصرفية العليا وإعطاءها سلطة استنسابية في وضع سقف لتمكين أصحاب الودائع من تحويل رصيدهم الى الليرة اللبنانية، بما يشير إلى النية الحقيقية بتكبيد المودعين القسم الأكبر من الخسائر”.
وفيما ينص اقتراح القانون على إنشاء صندوق استرجاع الودائع غايته العمل على استرداد رصيد الودائع المؤهلة وتخصيص بعض الإيرادات المستقبلية لهذه الغاية، يرى مرقص أن هذا الصندوق “سيثقل موازنة الدولة ويقوض إمكان النهوض والتعافي الاقتصادي السليم، على اعتبار أن نسبة من إيرادات الدولة ستخصص لتسديد دفعات الصندوق وفق شروط شبه مستحيلة التحقيق كوصول الدين العام الى أقل من المستوى المستهدف”. وسأل: “أين مساهمة الدولة في صندوق استرجاع الودائع طالما أن المودعين سيموّلون الصندوق؟”.

اضغط هنا لقراءة المقال على موقع النهار