كما الكهرباء، كما الهاتف، كما “العقارية” و”النافعة” والمطار، كذلك #الإنترنت والسّعات والأسواق السيبرانية. مغاور تجاور مغاور، ولِمَ لا؟ فـ”الرزق السايب” وغياب المحاسبة والمراقبة واحترام القانون، لا تبني حصوناً ومناعة أخلاقية وإنسانية في المؤسسات الخدماتية العامة، بل تجعلها لقمة سائغة في فم كل مسؤول أو وصِيٍّ مدعوم، وذبيحة لجشع ساسة وأتباع لهم ليستبيحوا بالجملة وبالمفرّق كل ما تقع عليه أيديهم.
في زمن الذكاء الإصطناعي وتحوّل #الاتصالات إلى عمود فقري لكل اقتصاد منتج ومتطور، وفي عالم يتحول الإنترنت فيه إلى بترول تكنولوجي يغذّي موازنات الدول ومواردها الضريبية بمليارات الدولارات، لا يزال لبنان ودولته خارج السياق العام للدول الطامحة للدخول إلى عالم المستقبل الذي سبقنا بأشواط.
يغضّ مسؤولو لبنان النظر ويتعامون في أكثر اللحظات الحرجة إقتصاديا وماليا ونقديا التي تمر بها البلاد، عن ثروات كامنة في قطاع الإنترنت، لو سعى المسؤولون عنه إلى الإفادة من أهمية دوره، وقدرته على جذب استثمارات عدة في جميع الميادين، لاستطاعوا بسهولة استدرار رسوم وضرائب مباشرة وغير مباشرة، لتغذية الخزينة المفلسة والباحثة عن قروش ضرائب في جيوب الناس، فيما “الدولارات” بمئات الملايين، الممكن تحصيلها، مهدورة في جيوب المنتفعين والمحاسيب والأزلام.
ليس الإنترنت غير الشرعي من يأكل من صحن الدولة وماليتها فحسب، ويهدر حقوقا ويوزعها شبه مغانم على شركات الانترنت الخاصة التي تشتري بالليرة وتبيع بالدولار “الفريش”، بل الإهمال المزمن في القطاع الذي جعل كل “مين إيدو طايلة” يستثمر في الفوضى فيه، ويغتنم فرصة تحلل الدولة وتفكك الرقابتين الإدارية والقضائية للإستمرار بسياسة تمرير الخدمات والمنافع العامة لمصلحته على حساب الخزينة والتوازن المالي في القطاع.
بالتأكيد، لا يمكن لقطاع الاتصالات ومعه الانترنت، التقدم والتطور ومجاراة أحدث الإبداعات والتكنولوجيا الحديثة، من دون التعاون مع القطاع الخاص الذي يمتلك ديناميكية حركة، وإدارة مرنة أكثر من القطاع العام تساعده في النمو والازدهار وتقديم الخدمات بجودة ومتابعة مستديمة جيدة. لكن المعضلة اللبنانية تبدأ دوما من تداخل العام مع الخاص، ولامبالاة الدولة بحقوقها ومواردها، إما إهمالا مقصودا وإما بيروقراطية تاريخية في الإدارة اللبنانية والتشريع النيابي، وكلاهما يؤدي إلى نتيجة واحدة، زيادة في خسائر الخزينة وارتفاع في أرباح القطاع الخاص. لكن مرونة القطاع الخاص لا تبرر لشركات الانترنت ومقدمي خدماته تأمين الخدمة لزبائنها بـ”الفريش” دولار أو بسعر “صيرفة” (90 ألف ليرة)، فيما هي تشتريها من “#أوجيرو” بالليرة اللبنانية على سعر صرف 3900 ليرة، وكذلك الفارق الكبير بالأسعار بينها وبين “أوجيرو” التي تزوّدها “السّعات” والخدمات وتسمح لها باستعمال سنترالات وزارة الاتصالات.
كانت لافتة تغريدة عضو تكتل “الجمهورية القوية” النائب سعيد الأسمر على حسابه “من يحمي القطاع الخاص على حساب “أوجيرو”؟ وسأل: “هل يُعقل أن تستوفي شركتا الاتصالات ومزوّدو خدمة الإنترنت الـISPs خدمة الإنترنت من المواطنين على سعر صيرفة، فيما يسدد هؤلاء تعرفة خدمة الإنترنت للدولة على سعر 3900 ليرة؟! ومن يحمي القطاع الخاص على حساب “أوجيرو”؟ ألم يشبع بعد المستفيد الجشع من شركات مزودي خدمات الإنترنت؟”.
“النهار” حملت سؤال النائب الاسمر الى وزير الاتصالات جوني القرم الذي أوضح أنه “لا يحق للوزارة تغيير التعرفة التي تسددها شركات الـ ISPs للدولة إلا بموجب مرسوم. ولكن، في حال عدّلنا المرسوم سيتأثر المواطن، فهل هذا هو المطلوب في الوقت الحاضر؟”.
ولكن ألا يُفترض بوزارة الاتصالات مراقبة هذه الشركات ومحاسبتها لعدم اعتمادها السعر الرسمي؟ يؤكد القرم أن وزارة الاقتصاد هي المسؤولة عن ملاحقة هذه المخالفات كونها المسؤولة عن حماية المستهلك، “فوزارة الاتصالات ليس لديها القدرة على تنظيم محاضر الضبط”، مجددا تأكيده أن “الأسعار حُددت في وزارة الاتصالات بالليرة اللبنانية وفق مرسوم ولا نستطيع أن نغير الاسعار لـ ISPs إلا بموجب مرسوم جديد”. فما المانع من تعديل المرسوم؟ يجيب القرم: “لا يمكننا زيادة الاسعار على الشركات الخاصة من دون أن يتأثر المواطن، وفي حال عدلنا المرسوم ستطاول زيادة الاسعار مشتركي “أوجيرو” الذين يقدر عددهم بنحو 280 الف مشترك، وحينها بدل أن نضبط الشبكة وتشجيع الناس على إبقاء اشتراكاتهم في “أوجيرو” على سعر منخفض، نكون قد شجعناهم على الانتقال الى الشركات الخاصة”.
النائب الاسمر أكد لـ”النهار” أن شركتي “ألفا” و”تاتش” “أبديتا استعدادهما للتسديد للدولة على سعر صيرفة لأنهما أصلا تتقاضيان من الزبائن على سعر المنصة، بما يدر على الخزينة نحو 5 ملايين دولار شهريا. لكن “ألفا” و”تاتش” هما جزء صغير من الانترنت، فيما الجزء الاكبر هو من نصيب الـ ISPs وشركات الانترنت غير الشرعي، بحيث يقبضون من زبائنهم بالدولار ويسددون للدولة على اساس سعر صرف 3900 ليرة”. من هنا يجزم الاسمر أن “ثمة من يحمي الـ ISPs، لذا لم يصدر القرار حتى الآن برفع السعر، خصوصا أنه لا يمكن حصر القرار بشركتي الخليوي فقط من دون الـ ISPs”. وإذ نفى أن يكون الوزير القرم هو المقصود بكلامه، كشف أنه أعد دراسة صغيرة عن الاجراءات التي يمكن اتخاذها لزيادة مداخيل الدولة بقرارات ومراسيم من الوزارة مباشرة، على أن يسلمها لوزير الاتصالات غدا الخميس، إذ من السهولة بمكان الايعاز الى شركتي “ألفا” و”تاتش” كون زبائنهما يسددون على سعر صيرفة، وتاليا لن يتأثروا بالقرار. وتوازيا يمكن إصدار مرسوم مخصص للـ ISPs وكل الذين يبيعون الخدمة للمشتركين النهائيين يجبرهم فيه على التسديد للدولة على سعر صيرفة. حتى أنه يمكن معاملة “أوجيرو” بنفس الآلية”، موضحا أنه “إذا تم رفع التعرفة على الـ ISPs وأبقيت تعرفة “أوجيرو” على حالها فإن المشتركين في الشركات سينتقلون الى “أوجيرو” التي لا قدرة لها حاليا على استيعاب مشتركين جدد وبأعداد كبيرة”.
ويبدو الاسمر مقتنعا بأن “ثمة مستفيدين من موضوع الانترنت غير الشرعي يمنعون السير بهكذا قرار كونهم يجنون ملايين الدولارات لجيوبهم الخاصة، كما أن هناك بعض الاشخاص على لائحة الـ ISPs يفيدون بمبالغ لا يستهان بها لكي يبقى الواقع كما هو عليه”. وقال: “عندما أتأكد من اسماء هؤلاء سأذهب مباشرة الى القضاء لأدّعي عليهم”.
من جهته أوضح المدير العام لـ”أوجيرو” عماد كريدية أنه “في العام 2017 صدر مرسوم قضى باستبدال تسديد ثمن الـ E1 بالليرة اللبنانية بدل الـ SDR، ولكن لم يكن في مخيلتنا أن الدولار قد يصل الى 100 ألف ليرة”. وقال: “ليس بوسعي المطالبة بالدفع بالدولار، كل ما بإمكاني فعله هو حض وزير الاتصالات على المطالبة بتعديل تعرفة الـ E1”.
وما ورد في تغريدة الاسمر أكدته رئيسة نقابة موظفي “اوجيرو” اميلي نصار التي أوضحت أن سعر الـ E1 الدولي بحسب المرسوم الرقم 9458 تاريخ 24 حزيران 2022 الصادر عن مجلس الوزراء هو 475 ألفا، أي أقل من سعر الكلفة على وزارة الاتصالات و”أوجيرو” التي تسدد ثمنه بالدولار “الفريش”. في حين أن شركة توزيع خدمات الانترنت التي تستأجر الـ E1 الدولي وتستثمره لبيع الخدمة للمشتركين النهائيين تجبي واردات تقارب 80 دولارا “فريش” شهريا، وفق ما تؤكد مصادر معنية بقطاع الاتصالات والانترنت، لافتة إلى “علاقة جرمية خفية ومخالفة لكل قوانين وزارة الإتصالات والقائمة سرا بين شركات توزيع الإنترنت غير الشرعي وشركات توزيع الانترنت المرخص لها وشركات نقل المعلومات المرخصة”. وحمّلت المصادر مسؤولية عدم احترام تطبيق المرسوم 9458 تاريخ 22 حزيران 2022، لوزارة الإتصالات وهيئة “أوجيرو” كونهما “تتغاضيان وتقومان قصدا وعمدا بتسهيل المخالفات القائمة بشأن استئجار السعات الدولية E1 من شركات توزيع الانترنت الشرعية لصالح الشركات غير الشرعية”. إضافة إلى أن المرسوم 9458 كان قد حدد في المادة 16 والمادة 17 منه كيفية وآلية معالجة هذه المخالفات، وأعطى لوزير الإتصالات مهلة أقصاها 6 أشهر فقط لإصدار التدابير التطبيقية لوضع حد لهذه المخالفات. كما منع وزير الاتصالات من تأجير الخطوط الدولية الـ E1 للشركات التي تبيع أو تساهم في بيع (وهنا المقصود شركات الـ ISPs) خدمات الإنترنت للمشتركين من خارج الشبكة المحلية العائدة لوزارة الإتصالات. غير أن الأشهر الستة قد انتهت منذ ثلاثة أشهر من دون المبادرة الى اي اجراء. ويجب على أجهزة الرقابة أن تتدخل فورا لمعاقبة المخالفين، علما أن النائب الاسمر أكد أن الوزير قرم يعمل جاهدا لوقف كل الانترنت غير الشرعي أو التصريح عن اعمالها تحت طائلة وقف الانترنت عنه.
وجزمت المصادر أن “حجم السوق غير الشرعي هو على الاقل 120 مليون دولار فريش سنويا، تحصل منه شركات توزيع الإنترنت الشرعي المرخصة ISPs وشركات الـ DSPs لقاء خدمات تقدمها خلافا للقوانين وللتراخيص على حصة تبلغ في الحد الأدنى 35 مليون دولار فريش سنويا، في حين أن وزارة الإتصالات وهيئة “أوجيرو” تتقاضيان فقط 3 ملايين لولار (ليس دولارا سنويا) لقاء تأجير السعات الدولية الإجمالية.
ومعلوم أن تقرير ديوان المحاسبة رقم 17/2021 تاريخ 11/11/2021 أشار إلى فضيحة مخالفات الـ ISPs مع شركات الانترنت غير الشرعي، وحجم السوق الذي يبلغ 120 مليون دولار فريش سنويا تتقاسمه هذه الشركات في ما بينها على حساب وزارة الإتصالات والخزينة العامة.
وتلفت المصادر الى “جريمة” أخرى تصب في مصلحة شركات الـ ISPs وتتعلق بإلغاء تسعير السعات الدولية E1 بالوحدة المالية العالمية الـ SDR (وحدات السحب الخاصة) وتحويلها إلى الليرة اللبنانية، علما أن كل دول العالم تسعر السعات الدولية بالـ SDR، وكل مراسيم التعرفة الصادرة في لبنان منذ الاستقلال لغاية عام 2017 كانت بالـ SDR. هذا القرار، وإن أصدره وزير الاتصالات السابق جمال الجراح، بيد أن الوزير القرم لم يصحح الوضع بل استمر في تطبيق “الغلط”، وفق ما تقول المصادر عينها، علما أنه وفي الوقت عينه تم اعتماد “الفريش” دولار في تسعير خدمات شركتي الخليوي للمحافظة على مستوى الواردات، فيما أهمل المحافظة على واردات الشبكة الثابتة أمام الهبوط المستمر والمعروف لليرة اللبنانية أمام الفريش دولار”.
لكن الوزير قرم أوضح لـ”النهار” أنه عندما يصدر مرسوم التعرفة، يأخذ في الاعتبار سعرا للجملة وسعرا آخر للمفرق، على أن يكون سعر الجملة أقل من سعر المفرق. وتاليا “اذا قررنا وضع سعر الجملة بحسب سعر الـ SDR فإنه يجب ايضا وضع اسعار المفرق على الـSDR بما يعني ارتفاع الفاتورة على المواطن”. وقال: “لا يمكن إصدار مرسوم ليكون سعر الجملة بالـ SDR فيما سعر المفرق باللبناني. تسعير الجملة والمفرق يجب أن يكون بعملة واحدة، أو الليرة اللبنانية أو SDR”.
مكتب للشركات في الوزارة؟
من جهة أخرى، علمت “النهار أن شركات الـ DSPs والـ ISPs تعمل حاليا وبموافقة وزير الاتصالات على إنشاء وتمويل مكتب خاص بها في الطابق الثالث من مبنى الوزارة حيث مكتب الوزير، على أن يدير المكتب المهندس إيلي حلو الذي يعمل بصفة مستشار للوزير، إضافة إلى أشخاص آخرين ينتمون إلى الشركات التي ستقوم بتمويل هذا المكتب بالفريش دولار.
بيد أن الوزير قرم أكد أنه حتى الآن لم يتم انشاء هذا المكتب، علما “أني لا أذيع سرا إذا قلت اني أسعى لتفعيل التواصل بين شركات الـ DSPs والـ ISPs وبين وزارة الاتصالات لتسهيل العمل بين القطاع الخاص والقطاع العام ولكن لا آلية نهائية حتى الآن، وهذا الامر يعود الى هذه الشركات. لا يهم وضع المكتب ولكن أشجعهم على أن تكون هناك مرجعية تتكلم باسمهم كمجموعة، وليس كشركات منفردة”.
ما هي “وحدة السحب الخاصة” أو الـ Special Drawing Rights, SDR:
الـ SDR هي عملة صعبة إفتراضية تتشكل من سلة من العملات الصعبة الحقيقية المتداولة في دول العالم: الدولار الاميركي، اليورو الأوروبي، الجنيه الاسترليني، والين الياباني.
أوجد هذه العملة الصعبة الافتراضية صندوق النقد الدولي عام 1969 لتكون وحدة قياس مالية عالمية سيادية ومستقلة وحيادية عن العملات الصعبة الوطنية العائدة للدول العظمى، وتُحتسب على أساسها مساهمات الدول في صندوق النقد الدولي.
ومنذ ذلك التاريخ أصبحت هذه العملة هي عملة المنظمات الدولية الحكومية: منظمة الأمم المتحدة ومنظماتها التابعة، البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، الخ.
كما أصبحت العملة المعتمدة في العقود التجارية الدولية وفي احتساب حصص الدول في المشاريع التجارية الدولية المشتركة.
كما تُعتمد هذه العملة في تحديد الرسوم وأسعار الخدمات الدولية في الدول التي تخشى تقلب عملتها المحلية وانهيارها المستمر أمام العملات الصعبة بالدولار مثلا، كما يحصل حاليا في لبنان.
لقد اعتمدت وزارة الإتصالات في لبنان منذ العام 1959 “وحدة السحب الخاصة” SDR في تحديد رسوم السعات الدولية والمكالمات الدولية وأسعار احتساب تبادل الحركة الدولية. واستمر هذا الأمر من دون أي تغيير لغاية العام 2017 حيث كانت الوزارة تعتمد الـSDR في تحديد رسوم الـE1 الدولية واحتساب المقاصات الدولية وحركة الرومينغ لدى شركتي الخليوي.
غير أن الوزير جمال الجراح قام في العام 2017، ولأسباب تتعلق بالفساد والمحاباة والمحافظة على مصالح المحاسيب والشركات الخاصة بنسف هذه القاعدة الذهبية وتحويل كل الرسوم إلى الليرة اللبنانية، على حساب مصلحة المال العام والخزينة العامة.
يذكر أن قيمة الـSDR الواحد تتبع قيمة العملات الصعبة في البورصات العالمية. فقيمة سعر الـ SDR الواحد بالنسبة الى الدولار تساوي اليوم 1.34769 دولارا أميركيا.