لم يتوقف الكثير من المحللين والمتابعين عند الأرقام التي طرحها صندوق النقد الدولي في تقرير البعثة الرابعة الى لبنان الذي أصدره الأسبوع الماضي، فالأرقام، على أهميتها، أصبحت معروفة ويجري تداولها منذ بداية الأزمة عام 2019. والتقرير على غرار ما سبقه من تقارير يؤكد الكارثة غير المسبوقة التي يعيشها لبنان منذ بداية الانهيار في 2019، وتتحمل مسؤوليته القوى السياسية الحاكمة التي تستميت للمحافظة على امتيازاتها ومصالحها، فتتقاسم الأدوار في تعطيل أي عملية إصلاح مطلوبة من صندوق النقد وغيره من الدول المانحة.وإن كان التقرير لا يحمل مفاجآت كبيرة، خصوصاً حيال خسارة الليرة 98% من قيمتها، وارتفاع وتيرة التضخم لتصل إلى 270% على أساس سنوي في شهر نيسان 2023، إضافة الى توقعه وصول الدين العام الى 550% من إجمالي الناتج المحلي بحلول عام 2027، بيد أن الجديد اليوم هو التوقيت، خصوصاً أنه كان مقرراً نشر التقرير في 21 حزيران الماضي. وهذا ما استخلصه أيضاً الباحث والخبير الاقتصادي زياد ناصر الدين الذي رأى أن “التقرير سياسي بامتياز ويأتي في الفترة التي يجري فيها البحث باسم لرئاسة الجمهورية، ومع اقتراب ملف استكشاف الغاز والنفط في البلوك 9″، معتبراً أن “توقيت التقرير هدفه قطع الطريق على أي تشبيك اقتصادي مع الدول العربية والشرق أو ربط لبنان بأي صندوق استثماري”.
ويسأل ناصر الدين عما إن كان ثمة تجارب ناجحة للصندوق في الدول التي تعاون معها، مشيراً الى أن “ما يقال عن أن التعاون مع الصندوق يعطي ثقة للخارج هو أمر غير صحيح. فالثقة تتعزز بإقرار القوانين، علماً بأن ثمة إصلاحات لا يأتي الصندوق على ذكرها وبعضها مرتبط بالموازنة والإصلاحات الضريبية المطلوبة”. والسؤال الذي يجب توجيهه لصندوق النقد برأي ناصر الدين هو “لماذا لا يتطرق الصندوق الى موضوع النفط والغاز وأهمية تكريره على السواحل اللبنانية خصوصاً أن ثمة مراكز مهمة جداً يمكن الإفادة منها استثمارياً، كما أنه لا يأتي على ذكر خيار التوجّه الى الشرق فيما العالم كله يذهب الى هذا الخيار ومن بينهم دول الخليج، والأهم أنه لا يتحدث عن أهمية الإفادة من المرافئ اللبنانية وتشبيكها مع دول المنطقة، فيما بدأ صندوق النقد يشير الى أصول الدولة… فهل المطلوب بيع أصول الدولة؟”.
وفيما يركز الصندوق في تقاريره على ودائع صغار المودعين بتأكيده ضرورة توفير أقصى حماية ممكنة لصغار المودعين دون ذكر كبار المودعين، ودون اقتراح لآلية حماية الودائع، يشكك ناصر الدين في نيّته، فيما القول إنه سيدفع الديون هو أمر غير صحيح، إذ إن هذا الامر غير موجود في النظام الداخلي للصندوق”. واعتبر أن “صندوق النقد هو جزء من المنظومة الاستشارية الفاسدة للنظام، ولا يجب أن يصدق أحد أنه سيفصّل شروط اقتراض على قياس اللبنانيين، بل إن أول ما سيقوم به هو تثبيت الهيركات وشطب جزء كبير من أموال المودعين، علماً بأنه في الحد الأدنى لبنان بحاجة الى 7 مليارات دولار لإعادة الودائع لصغار المودعين”.
بالنسبة للأرقام التي طرحها الصندوق، فهي وإن كانت متداولة بين اللبنانيين بيد أنها تغيّرت كثيراً برأي ناصر الدين، وتالياً هي بحاجة الى تدقيق أكثر”. فالصندوق مثلاً يشير الى أن لبنان يعاني من درجة عالية جداً من المديونية، إذ إجمالي الالتزامات المترتبة عليه للخارج يبلغ 150 مليار دولار، أو 730% من الناتج المحلي، فيما يؤكد ناصر الدين أن “الصندوق يعي تماماً أن الارقام انقلبت رأساً على عقب، ويعرف أن ثلثي الدين هو بالليرة اللبنانية وقد انخفضت قيمته، ولا يمكن احتساب قيمة سندات اليوروبوندز كما السابق بعدما انخفضت قيمتها وأصبحت لا تتجاوز 10%”.
الصندوق يركز على الإصلاحات وأهمية تطبيقها كشرط للحصول على برنامج مساعدات تراوح قيمته ما بين 3 و4 مليارات دولار، ولكن ناصر الدين يلفت الى أن الصندوق لم يأخذ في الاعتبار أن “اقتصادنا أصبح مدولراً ويعتمد أكثر على الكاش، فيما الإصلاحات التي يطلبها إن كان ما يتعلق منها بالكابيتال كونترول أو هيكلة القطاع المصرفي ورسملته، وموضوع السرية المصرفية، أصبحت لزوم ما يلزم. فالسرية المصرفية انتهت في لبنان بين عامي 2015 و2019 عندما بدأت المصارف اللبنانية تزود كل المعلومات عن الحسابات اللبنانية خصوصاً في إطار انخراطها في القوانين العالمية لمكافحة تبييض الأموال وغيرها من القوانين. أما الكابيتال كونترول، وإن كان مطلوباً في كل المراحل، ولكن ما حصل فعلياً هو أن الكابيتال طار وبقي الكونترول. مع الإشارة الى أن صندوق النقد لم يكن غائباً عن لبنان من 2001 حتى اندلاع الأزمة في 2019، إذ كان يستشيره المعنيون في لبنان وفي بعض الحالات كان يشجع السياسات التي تعتمدها الدولة”.
وإذ سأل “هل المطلوب من لبنان الالتحاق بصندوق النقد؟” قال “مثال مصر واضح أمامنا، والتصاريح الأخيرة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عن واقع هذا الصندوق وكيفية تعاطيه مع بلاده”، معتبراً أن الصندوق دخل باللعبة الرئاسية في لبنان، وتالياً ثمة سؤال عما إن كان هذا الأمر مسموحاً في نظامه الداخلي، وهل مسموح لموظفيه بالترشّح للرئاسة؟
إدانة للمسؤولين؟
في سابقة هي الأولى من نوعها وخلال شهر واحد فقط، يحذر صندوق النقد من خطورة الأزمة في لبنان وتفاقمها خصوصاً مع عدم القيام بالإجراءات الإصلاحية المطلوبة، وتكفي عبارة “إنه وخيم جداً” التي قالها إرنستو ريجو رئيس بعثة الصندوق في لبنان عن الوضع في لبنان لإظهار عمق الانهيار والمدى التي بلغته الأزمة. ولكن كما ناصر الدين يعتبر الباحث الاقتصادي الدكتور أيمن عمر أن “التقرير لا يخرج عن الإطار العام للتقارير السابقة حول لبنان ولم يأتِ بجديد، إذ إنه منذ بدء الأزمة وصندوق النقد يصدر التقارير والبيانات والمؤتمرات الصحافية العالية النبرة وينذر من خطورة الوضع المالي والاقتصادي في لبنان”. ففي 23 آذار المنصرم أعلن الصندوق أن “لبنان في وضع خطير للغاية”، وفي 9 حزيران الفائت وصف الأزمة بـ”الشديدة والمتفاقمة”، وكرر التحذير من أن لبنان “بحاجة إلى تحرك عاجل لتنفيذ إصلاحات اقتصادية شاملة، تجنباً لعواقب يتعذر إصلاحها”، ومع ذلك لم تلق هذه الإنذارات والتحذيرات آذاناً صاغية، لذلك من الطبيعي أن تزيد خطورة الوضع وتتدحرج إلى مزيد من الانهيارات والأزمات.
من المؤشرات التي ينبغي التوقف عندها ملياً في تقرير الصندوق برأي عمر، “نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي التي توقع بلوغها 550% في عام 2027، ليتصدر بذلك قائمة الترتيب عالمياً وفق هذا المؤشر. والخطورة في المؤشر مرتبطة بمدى تقلص حجم الناتج المحلي سنوياً مع استمرار الأزمة حيث إن حجم وقيمة الدين العام انخفض مع تدهور قيمة العملة الوطنية، وما يعني ذلك من انكماش الاقتصاد وتداعياته على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية”.
توقع الصندوق انخفاض حجم الناتج المحلي الاسمي من 21.8 مليار دولار في عام 2022 إلى 16.2 ملياراً في عام 2023 أي بنسبة انخفاض نحو 25.7%، وهذا يعني برأي عمر أن “الاقتصاد سيخسر نحو ربع حجمه هذه السنة، ليضاف إلى خسارة 40% من حجم الاقتصاد منذ بداية الأزمة حتى عام 2022. من هنا الخطورة التي أعلن عنها الصندوق، فضلاً عن خسارة 10 مليارات دولار من الودائع منذ 2020 والضغوط التضخمية المستمرة”.
وتحدث التقرير عن ارتفاع عجز المالية العامة نسبة إلى الناتج المحلي 5.2% في 2022 بعد أن حققت فائضاً 1.2% في عام 2021، وتوقع ارتفاع العجز في 2023 ليصل إلى 6.9% في ظل عدم القدرة على الجباية الفعالة، و”هذا الأمر له تداعيات على المرافق والإدارات العامة والقدرة على تسييرها وتوفير الخدمات العامة الملائمة للمواطنين” وفق عمر.
وفيما أكد الصندوق أن “الإصلاحات التي قام بها المسؤولون، لم تبلغ مستوى النصيحة التي قدمها مسؤولو الصندوق للسلطات أو التوقعات التي نوقشت”، رأى عمر أن “في ذلك إدانةً للمسؤولين، إما بتقاعسهم عن القيام بتلك الإصلاحات أو بعدم قدرتهم على ذلك، بل ثمة اتهام لهذه الطبقة السياسية بأن سبب تفاقم الأزمة هو تقاعسهم عن اتخاذ الإجراءات المناسبة لمعالجة الأزمة وكذلك تفضيلهم مصالحهم الخاصة على المصالح الوطنية”.
الى ذلك شدد المديرون في المجلس التنفيذي للصندوق على “أهمية المصداقية في إعادة هيكلة النظام المالي لاستعادة سلامته واستمراريته”، وفي ذلك أيضاً برأي عمر “اتهام للسلطة السياسية بالكذب في ما خص عملية هيكلة القطاع المصرفي، التي لم تلح بوادرها حتى اللحظة رغم أنها العنصر الأهم في الأزمة بكل تفاصيلها”.
صندوق النقد يؤكّد المؤكّد ويتوقّع الأسوأ… فماذا عن التوقيت؟
