خاص www.limslb.com : الدولة “تعوم” على بحر من الممتلكات وتستأجر عقارات بمليارات الدولارات.

خاص www.limslb.com : الدولة “تعوم” على بحر من الممتلكات وتستأجر عقارات بمليارات الدولارات.

الملخص التنفيذي

خلافاً للقاعدة الذهبية التي تقول “لا تنتظر أن تقع في المشكلة كي تبدأ في البحث عن الحلول”، يعمل المسؤولون اللبنانيون. فالاستعصاء على الإصلاح الذي شكل العلامة الفارقة في الانهيار الاقتصادي يعود بشكل أساسي إلى المقاربات الخاطئة التي يتم اعتمادها، والتي غالباً ما تكون “غب طلب”، بقاء القديم على قدمه. ولا تشذ مشكلة الأبنية الحكومية المستأجرة لصالح الدولة عن هذا السياق. فهذه المباني التي كانت “جمراً تحت رماد في السنوات السمان” تحولت مع سنوات الأزمة العجاف إلى “نار تلتهم ما في خزينة الدولة من يباس الليرات والدولارات الخضراء”. ومع هذا، ما زالت الحلول تدور في طاحونة مقبرة اللجان فلا ينتج عنها إلا حصى قاسٍ غير قابل للمعالجة. 

في الثامن من أيار 2023، أصدر رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي القرار رقم 23/‏58 الذي يقضي بـ “تشكيل لجنة لدرس موضوع بدلات إيجار الأبنية الحكومية المستأجرة لصالح الدولة اللبنانية”. واللافت في القرار الذي أتى متأخراً قرابة الأربع سنوات على بدء الانهيار هو حصر مهمة اللجنة المشكّلة من وزراء بـ ” تقديم حل شامل لمعالجة موضوع الزيادة على بدلات الإيجار المقترحة من قبل المالكين”، ما يعني استمرار معالجة القشور دون الدخول في صلب المشكلة الذي يسمح بوضع حلول جذرية تدر موارد على خزينة الدولة بدلا من تكبدها المزيد من الأكلاف. كما لم يتطرق القرار إلى إعادة النظر في أملاك الدولة الخاصة وكيفية الاستفادة منها تأجيرا أو استثماراً.

وينقسم موضوع الأبنية الحكومية إلى شقين رئيسيين:

الأول: يتعلق بالمباني المستأجرة، ومنها على سبيل الذكر لا الحصر مبنى الإسكوا ومقر المجلس الاقتصادي والاجتماعي وبعض الإدارات الرئيسية والكثير من المدارس الرسمية. وتُقدّر الإحصاءات أن تكون الدولة قد دفعت بين العامين 1997 و2019 أكثر من مليار دولار على شكل بدل إيجارات مكاتب حكومية وعقارات، مع العلم أن كلفة تشييد أبنية الإدارات العامة في سبيل استغناء الحكومة وإداراتها عن تكاليف الاستئجار تبلغ 740 مليار ليرة، منها 275 مليار ليرة على شكل اعتمادات للعام 2022 تم تخفيضها إلى صفر.

الثاني: إخضاع إيرادات الدولة من تأجير العقارات التابعة لها لقانون الشراء العام. إذ من الممكن أن توصف عملية تأجير عقار من منظار بيع خدمة أو بأنها تدخل تحت عنوان إدارة أملاك الدولة الخصوصية غير المنقولة؛ وعليه، يتوجب الإعلان عنها في مزاد ليجري التأجير في المزاد العلني. وفي حال لم ينجح المزاد، يمكن إجراء التأجير بالتراضي، ما يعني أن التأجير يخضع لأحكام المزايدات التي أُخضِعَت لأحكام قانون المحاسبة العمومية وحاليا لقانون الشراء العام رقم ٢٤٤/ ٢٠٢١ النافذ اعتبارا من ٢٩-٠٧-٢٠٢٢.

ويكمن التناقض في ما سبق في إخضاع الإيرادات لقانون الشراء العام وترك النفقات المتعلقة باستئجار المباني واستثمارها في حلٍ من القانون المعني؛ حيث تُعتبَر من العقود الخاضعة لأحكام القانون الخاص لا القانون العام ولا تتحقق فيها معايير العقد الإداري.

ليس حل هذه المشكلة في التفاوض مع المالكين لزيادة عقود الإيجار بالليرة وتخفيضها بالدولار كما تنوي الدولة فعله، وإنما في تقليص الدولة اعتمادها على الإيجار ومحاولة زيادة مداخيلها من تأجير الأبنية والعقارات الشاسعة التي تمتلكها. ويمكن للدولة العاجزة عن الإنفاق الاستثماري، اعتماد واحد من الأنظمة الحديثة لتشييد أو تأهيل الأبنية من دون تحمل تكلفتها، عبر نظام BOT – البناء والتشغيل والتحويل أو نظام BOO – البناء والتشغيل والتملك أو نظام ROT – إعادة التأهيل والتشغيل والتحويل، بل حتى نظام ROO   – إعادة التأهيل والتشغيل والتملك. ويعني ذلك تلزيم شركات عقارية خاصة الأراضي الحكومية الشاغرة والمباني التي تحتاج الى إعادة تأهيل لاستثمارها بأفضل طريقة وبكفاءة عالية على أن تسمح للدولة باستخدام جزءًا منها. ويقودنا ذلك إلى ضرورة إعادة هيكلة القطاع العام بشرياً قبل هيكلته حجرياً، لا سيما أنّ في تناسق العمليتين الإفادة للجميع. أما فيما يخص النفقات وقانون الشراء العام، فربما تكمن عبرة استبعاد استئجار العقارات وشراؤها من أحكام قانون الشراء العام في كون هذه العقارات أموالاً محددة بذاتها ومكانها ومحتوياتها، ما يجعل احتمالات المنافسة بشأن شرائها أو استئجارها ضئيلة جدا. ومع ذلك، فقد كلّفت مسألة شراء العقارات واستئجارها بطريقة غير تنافسية الدولة اللبنانية على مدى عقود من الزمن مبالغ طائلة تستحق إعادة النظر في العملية برمتها لناحية إيجاد آلية بديلة عقلانية لإيجاد مبانٍ للإدارات الحكومية.

خضوع العمليات المرتبطة بالعقارات التي تملكها الدولة لأحكام قانون الشراء العام: بين الحاجة والقانون

تتكبد الدولة تكاليف إيجار المباني الحكومية دون استغلالها

اتسمت سياسة استئجار المباني الحكومية على مدى عقود من الزمن بما يلي:

  • دفع ثمن إيجارات مبانٍ لا تستخدمها أي إدارة في عملها.
  • تجاهل خيارات تشييد مبانٍ حكومية على مساحات عقارية تملكها الدولة على الرغم من وفرة مساحاتها بطريقة «البناء والإيجار والتحويل». ويزعم البعض أنه لو حصل ذلك لتحولت مزاريب الهدر من مالكي العقارات المستأجرة إلى المتعهدين المحظيين.
  • عودة ملكية معظم الأبنية المستأجرة منذ عهود إلى مرجعيات سياسية أو طائفية أو إلى مقرّبين منها.
  • غياب دراسات تقييم جدوى استخدام المساحات المستأجرة من قبل الإدارات العامة لامتحان فرص تقليصها.
  • دفع الدولة اللبنانية أكثر من مليار دولار بين العامين 1997 و2019 على شكل بدل إيجارات مكاتب حكومية وعقارات.
  • عدم تقليص الدولة بدلات الإيجار التي تدفعها وعدم محاولتها زيادة مداخيلها من تأجير العقارات والأبنية التي تمتلكها، إضافةً إلى عدم محاولتها الاستفادة من العقارات الشاسعة التي تملكُها.

في ظل هذا الواقع، ومع تفاعل الأزمة المالية الخانقة الحالية وما تشكله تكلفة المباني الحكومية من عبء ثقيل على المالية العامة إلى جانب ارتباط الموضوع وصلته الوثيقة بتكلفة الوظيفة العامة وإنتاجيتها من منظار إصلاح المالية العامة،  يبدو منطقيا طرح مسألة خضوع شراء العقارات واستئجارها لأحكام قانون الشراء العام، لا سيما أن عملية استئجار العقارات لاستخدامها أبنيةً حكومية قد أرهقت الخزينة اللبنانية وكبدتها أموالاً طائلة ذهبت في جيوب أتباع ومستفيدين سياسيين؛ كما تُطرَح للبحث في ظل شح الموارد العمومية مسألة تأجير العقارات وبيعها من منظار قانون الشراء العام.

إيرادات الدولة من تأجير العقارات تخضع لقانون الشراء العام

يمكن أن توصف عملية تأجير عقار من منظار بيع خدمة أو بأنها تدخل تحت عنوان إدارة أملاك الدولة الخصوصية غير المنقولة والتي تحكمها نصوص القرار رقم ٢٧٥ تاريخ ٢٢-١٠-١٩٢٦؛ وبالرجوع إلى نص المادة ٦٠ من هذا القرار، يتبين أنها نصت على ما يلي: “أن العقارات في الداخلية في أملاك الدولة في المدن تؤجر بعد الإعلان عنها لمدة أربع سنوات على الأكثر وبناء على تعيين سعر افتتاح المزايدة على أثر كشف إداري فيما عدا الأحوال التي تؤجر فيها العقارات لإدارة عمومية أو لمصلحة المنفعة العمومية أو لأحدى البلديات. يجب بصورة إجبارية أن يجري التأجير المزاد العلني؛ إذا لم ينجح المزاد فيمكن إجراء التأجير بالرضى….”. ويعني ذلك أن التأجير يخضع لأحكام المزايدات التي أخضعت لأحكام قانون المحاسبة العمومية وحاليا لقانون الشراء العام رقم ٢٤٤/ ٢٠٢١ النافذ اعتبارا من ٢٩-٠٧-٢٠٢٢.

ويخضع التأجير لغايات استثمارية لقاعدة المزايدة العمومية وفقا للأحكام المنصوص عليها في قانون المحاسبة العمومية ثم في قانون الشراء العام.

نفقات الإيجارات لا تخضع لأحكام قانون الشراء العام على عكس الإيرادات

في تعريفه للخدمات ضمن المادة الثانية منه، ميز قانون الشراء العام بين الخدمات الاستشارية (فقرة ١١) والخدمات غير الاستشارية (فقرة ١٢)، معرفاً الأخيرة وفقا لما يلي: الخدمات التي يكون التعاقد فيها على أساس أداء عمل مادي يمكن توصيفه من غير الخدمات الاستشارية؛ ومن مثال ذلك الحراسة والنظافة وخدمات النقل والتأمين والصيانة وغيرها. ولم يذكر التعريف الإيجارات في الأمثلة التي أوردها وإن كانت هذه الأمثلة قد وردت على سبيل المثال لا الحصر.

من جهته لم يعرّف قانون المحاسبة العمومية صفقات الخدمات ولا يُستَنبط من أي مادة من مواده ما يدل على استئجار العقارات.

واللافت في الأمر أن قانون تنظيم ديوان المحاسبة لا يعتبر صفقات إيجار العقارات من بين صفقات اللوازم والأشغال والخدمات الخاضعة سابقاً لأحكام قانون المحاسبة العمومية وتالياً لأحكام قانون الشراء العام اعتباراً من ٢٩-٠٧-٢٠٢٣. إذ نصت المادة ٣١ من قانون تنظيم ديوان المحاسبة وتعديلاته في فقرتها الثانية على أن تخضع للرقابة الإدارية المسبقة فيما خص النفقات الاتفاقات الرضائية بما فيها عقود الإيجار التي تفوق قيمتها مائة وخمسين ألف ليرة، مميزةً بشكل واضح بين صفقات اللوازم والأشغال والخدمات وعقود الإيجار ومدرجةً الأخيرة ضمن الاتفاقيات الرضائية.

ويعني ذلك أن عملية استئجار العقارات لا تخضع لأحكام قانون الشراء العام وأنّ عقودها تعتبر من العقود الخاضعة لأحكام القانون الخاص لا القانون العام ولا تتحقق فيها معايير العقد الإداري.

قانون الشراء العام يطبق على بيع أملاك الدولة غير المنقولة والعقارات

نصت المادة ٣١ من قانون تنظيم ديوان المحاسبة وتعديلاته على ان تخضع للرقابة الإدارية المسبقة فيما خص الإيرادات محاضر تلزيم الإيرادات وبيع العقارات عندما تفوق القيمة خمسين ألف ليرة. 

ويبدو واضحا أن هذه المادة أخرجت بيع العقارات من عملية تلزيم الإيرادات.

وقد نصت المادة ٤٦ من قانون المحاسبة العمومية على أن تباع أملاك الدولة غير المنقولة وفقا للأحكام المختصة بها. وهنا يُرجع إلى نصوص القرار رقم ٢٧٥ تاريخ ٢٢-١٠-١٩٢٦، وتحديداً المادة ٧٧ منه، التالي نصها: “تباع أملاك الدولة الخاصة بطريقة المزايدة العلنية وفقا للأصول المنصوص عليها في قانون المحاسبة العمومية وذلك على أساس تخمين تضعه لجنة خبراء”.

وبما أن الأسس المتعلقة بصفقات اللوازم والأشغال والخدمات المنصوص عليها في قانون المحاسبة العمومية قد أُلغِيت بموجب الفقرة الأولى من المادة ١١٤ من قانون الشراء العام وحلت محلها أحكام قانون الشراء العام رقم ٢٤٤ تاريخ ١٩-٠٧-٢٠٢١ النافذ اعتبارا من ٢٩ -٠٧ -٢٠٢٣، تطبق تالياً هذه الأحكام على بيع أملاك الدولة غير المنقولة، ويخضع بيع العقارات لأحكام قانون الشراء العام.

الاستثناءات المتعلقة بشراء العقارات واستئجارها في قوانين الشراء العام والمحاسبة العمومية

عرف قانون الشراء العام في المادة ٢ (وتحديدا الفقرة ٩) منه اللوازم على أنها الأموال المنقولة أياً كان نوعها ووصفها (والخدمات المتعلقة بها) إذا كانت قيمتها لا تتجاوز قيمة اللوازم نفسها.

ومن الواضح أنه وبالنظر لاتصال اللوازم بالأموال المنقولة ولهذه الصفة، تخرج عملية شراء العقارات من أحكام قانون الشراء العام.

من جهته، لم يعرف قانون المحاسبة العمومية صفقات اللوازم ولا يُستنبَط من أي مادة من مواده ما يدل على شراء العقارات.

وقد نصت المادة ٣١ من قانون تنظيم ديوان المحاسبة وتعديلاته في فقرتها الثالثة على أن تخضع للرقابة الإدارية المسبقة فيما خص النفقات المعاملات التالية: معاملات شراء العقارات ومشاريع الاتفاقات الرضائية التي تجريها الإدارة في قضايا الاستملاك عندما تفوق القيمة مائتي ألف ليرة، ما يعني أن قانون تنظيم ديوان المحاسبة لم ينظر إلى عملية شراء العقارات على أنها خاضعة للأحكام الخاصة بصفقات اللوازم والأشغال والخدمات في قانون المحاسبة العمومية، وإنما أخضعها لرقابة ديوان المحاسبة كونها تنطوي على إنفاق مال عام.

ووفقا للمادة العاشرة من توجيهات الاتحاد الأوروبي رقم ٢٤ / ٢٠١٤ تاريخ ٢٦ شباط ٢٠١٤ المتعلقة بالصفقات العمومية، فقد أخرجت من أحكام هذه التوجيهات عمليات تملك الأراضي والأبنية أو استئجارها.  وقد أدخلت هذه التوجيهات في قوانين الشراء العام الفرنسية فنصت المادة ١٤ من الأمر المتعلق بالطلب العمومي على أن لا تخضع لهذا التشريع عمليات تملك الأراضي والأبنية أو الحقوق المرتبطة بها (الارتفاق والاستعمال والانتفاع) أو استئجارها أيا كانت الطرق المالية المتبعة في ذلك.

وربما تكمن العبرة في استبعاد استئجار العقارات وشراؤها من أحكام قانون الشراء العام في كون هذه العقارات أموالاً محددة بذاتها ومكانها ومحتوياتها، ما يجعل احتمالات المنافسة بشأن شرائها أو استئجارها ضئيلة جدا. ومع ذلك، فقد كلفت مسألة شراء العقارات واستئجارها بطريقة غير تنافسية الدولة اللبنانية على مدى عقود من الزمن مبالغ طائلة تستحق إعادة النظر في العملية برمتها لناحية إيجاد آلية بديلة عقلانية لإيجاد مبانٍ للإدارات الحكومية.

فريق المعهد اللبناني لدراسات السوق