استمرت وزارات الدولة وإداراتها في اتباع النهج نفسه في الصفقات العمومية وعمليات الشراء والتعاقد بعد إقرار قانون الشراء العام ووضعه موضع التنفيذ. وليس في الأمر عادة سيئة عند بعض الوزراء والمسؤولين يصعب التخلص منها فحسب، بل عقلية تحاصصية لطالما قامت على التلزيم بالتراضي. ويتناقض ذلك مع هدف عريض من أهداف قانون الشراء العام يتمثل في تحقيق التوازن بين القيمة الفضلى من الإنفاق والمنافسة.
أثناء إعداد قانون الشراء العام، حرص المعدّون على أن يراعي إنفاق إدارات الدولة ومؤسساتها أقل قيمة ممكنة من الأموال للحصول على أفضل السلع والخدمات. وتُعتبَر هذه هي القاعدة الذهبية التي يعتمدها القطاع الخاص ويعود لها الفضل في تحقيق مصلحته ومصلحة المجتمع، ولا يمكن تحقيقها دون المنافسة. وعليه، فقد ربط قانون الشراء العام القيمة الفضلى من الإنفاق والمنافسة بـ “شعرة”، تشبه مجازياً “شعرة معاوية”. ويمكن للإدارات العامة التحكم بمرونة الشعرة والحرص على عدم انقطاعها من خلال الإعداد الصحيح لدفتر الشروط الذي ينبغي أن يحرص على تحقيق أوسع قدر ممكن من المنافسة. وهذا ما شهدناه على سبيل المثال لا الحصر في تلزيم مراكز المعاينة الميكانيكية، حيث خُفّضت قيمة الضمانات المادية للسماح للشركات الصغيرة بالمشاركة، وجرى فصل مراكز المعاينة الأربعة بعضها عن بعض. وبهذه الطريقة، يمكن تلزيم كل مركز على حدة لشركة أو مجموعة شركات. وعلى الرغم من الشوائب التي شابت دفتر شروط تلزيم مراكز المعاينة وعدم أخذه في الاعتبار متطلبات العصر وفتح المنافسة لا مجرد توسيعها، فقد كان أفضل بما لا يقاس نسبة إلى تلزيمات وزارتي الطاقة والاتصالات.
وعلى الرغم من وضوح قانون الشراء العام لجهة عدم إمكانية التلزيم من دون مناقصة عمومية ترتكز على المنافسة وتبريره ذلك بالحرص على تحقيق المنفعة الفضلى وإفساح المجال امام الشركات المحلية للمشاركة، ظلت العديد من الإدارات تتنكر لهذا الشرط. فقد رأينا تجاوز هذه المواد المدرجة بوضوح في قانون الشراء العام في صفقات شراء الفيول في وزارة الطاقة. كما ظهرت التجاوزات فادحة في تلزيمات وزارة الاتصالات، وخصوصاً في محاولتها مراراً وتكراراً تلزيم البريد لجهة شارية واحدة من خلال تفصيل دفتر شروط على قياسها. كما رأيناها في محاولة تلزيم المحفظة الرقمية e- Wallet في شركة “ألفا” بالتراضي مع شركة “سيول” في مخالفة واضحة لقواعد المنافسة والعلنية والشفافية في قانون الشراء العام. ولم تقتصر الأمور على هذه المخالفات، بل سبقتها محاولات صريحة لتلزيم خدمة OTT في شركات الاتصال الخلوية بالتراضي أيضا.
وإزاء كل ما تقدم، يتضح أن لا إصلاح في المجتمع ولا نهضة في مؤسسات الدولة ولا إمكانية لتقليص نفقاتها وزيادة إيراداتها ما لم تتجذّر فيها عقلية المنافسة. وبحسب دراسة “المنافسة والنمو الاقتصادي”، المنشورة على موقع “الإسكوا”، يتبين “أن سياسة المنافسة تعد من أهم الأدوات التي يمكن للحكومات استخدامها لتعزيز كفاءة الأسواق وتنشيط حركة العرض والطلب ومعالجة أي إخفاقات اقتصادية قد تطرأ على نشاط الأسواق، وهي أداة أساسية يمكن استخدامها للجمِ اندفاع بعض الأطراف في السوق في سبيل زيادة مكاسبهم المادية بشكل لا يتفق مع قانون المنافسة”. لذا تشدد هذه الورقة على أهمية التزام إدارات الدولة بإلزامية المنافسة شرطاً فرضه قانون الشراء العام وتأخذ بالتوصيات المحلية والدولية لاعتماد المنافسة منهجاً يحقق صالح الجميع. وفيما يلي عرض مفصل لما نص عليه قانون الشراء العام فيما يتعلق بتحقيق التوازن بين المنافسة والقيمة الفضلى من الإنفاق.
فعالية الشراء العام متوقفة على التوازن بين المنافسة والقيمة الفضلى من الإنفاق
نصت المادة الأولى من قانون الشراء العام على «تطبيق الإجراءات التنافسية كقاعدة عامة وإتاحة فرص متكافئة دون تمييز للمشاركة في الشراء العام». كما نصت الفقرة الأخيرة من هذه المادة على اعتبار المبادئ الواردة فيها من الانتظام العام، بما معناه أنه لا يجوز الاتفاق على مخالفتها، كما أنه لا يجوز تفسير أي نص بما يخالف مضمونها، وأن القاضي يثيرها عفوا وإن لم يدل بها الأطراف.
وقد نصت المادة ٤٢ من قانون الشراء العام على أن يجري الشراء بصورة أساسية بواسطة المناقصة العمومية وأجازت اعتماد طرق شراء أخرى أقل تنافسية بقرار معلل من المرجع الصالح عند توفر شروط محددة بالنص، على أن تسعى الجهات الشارية عند تعذر اعتماد المناقصة العمومية إلى زيادة التنافس إلى أقصى حد ممكن.
وقد كرس قانون الشراء العام ضمن مبادئه الواردة في المادة الأولى منه والمعتبرة من الانتظام العام مبدأ «تشجيع التنمية الاقتصادية المحلية والعمالة الوطنيّة والإنتاج الوطني على أساس القيمة الفضلى من إنفاق المال العام، دون الإخلال بالفعالية».
ويُعتبَر تحقيق القيمة الفضلى من إنفاق المال العام هدفاً ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار في إجراءات الشراء المواكبة لكل مرحلة من مراحله، بدءاً من تحديد الحاجة وتحديد القيمة التقديرية وصولاً إلى الاستلام النهائي الذي يقتضي بموجبه أن تكون الجهات الشارية قد حققت مشروع شراء ذا قيمة ضمن قواعد الحوكمة والفعالية والقيمة الفضلى المحققة من الإنفاق، والتي ترجمها قانون الشراء العام إلى أحكام وإجراءات في مواده تضمن تحقيق هذه الأهداف.
وحيث كانت القيمة الفضلى من الإنفاق مرتبطة بعمل أو سلعة أو خدمة من نوعية جيدة ومفيدة بأقل تكلفة مالية ممكنة، وحيث كانت هذه السلعة لا يمكن أن يقدمها إلا مورد مؤهل، يكون على الجهات الشارية الخاضعة لأحكام قانون الشراء العام تحقيق التوازن في معادلة تتضمن عاملين: الأول يتعلق بتطبيق الإجراءات التنافسية قاعدةً عامة وإتاحة فرص متكافئة دون تمييز للمشاركة في الشراء العام، والثاني يتعلق بتحقيق القيمة الفضلى من إنفاق المال العام دون الإخلال بالفعالية من خلال الشراء من موردين مؤهلين أي قادرين على إنجاز أشغال أو تقديم لوازم أو خدمات تراعي معيار القيمة الفضلى المحققة من المال العام المنفق، أي الحصول على أعلى مردود ممكن من هذا الإنفاق .
وتنطلق هذه المعادلة من إعداد ملفات التلزيم الخاصة بمشاريع الشراء، وهو أمر يقع على عاتق الجهات الشارية الخاضعة لأحكام قانون الشراء العام. وعليه، يقتضي أن تحقق الشروط المدرجة في هذه الملفات توازنا بين هدفي المنافسة والفعالية.
من هنا، يكون تحقيق التوازن في ملفات التلزيم من خلال وضع المؤهلات المتناسبة مع موضوع الشراء دون الإخلال بمبدأ التنافس، مثل إدراج شروط حصرية «مفصلة على قياس» عارض أو عدد من العارضين، وتحمي في الوقت عينه مصلحة الإدارة العامة من مخاطر فشل مشروع الشراء وهدر المال العام.
وقد سلط قانون الشراء العام الضوء على هذا الموجب من خلال المواد التي تضمنت القواعد العامة والقواعد الإجرائية والأحكام المتعلقة بشروط المشاركة والتأهيل المسبق ومحتويات دفاتر الشروط من ناحية، ووجوب اتساقها مع وصف موضوع الشراء وطريقة وضع معايير التقييم وتطبيقها من ناحية أخرى. ويبدأ ذلك من وضع دفاتر الشروط مروراً بطلبات الاستيضاح ووصولاً إلى التلزيم والتنفيذ.
ويبدأ عرض هذا الموجب من المادة ٧ من قانون الشراء العام، ويواكب سير عمليات الشراء بربط هذه الشروط والأحكام بالمواد التالية من قانون الشراء العام:
– بالمادة ١٧”وصف موضوع الشراء” لناحية التناسب مع موضوع الشراء.
– بالمادة ١٨ “معايير التقييم” لناحية إعداد المعايير وتطبيقها.
– بالمادة ١٩ “التأهيل المسبق”، للتأكيد بصراحة النص على أن المؤهلات الكاذبة أو المغلوطة تؤدي في مطلق الأحوال، بما فيها التأهيل المسبق، إلى إسقاط الأهلية.
– بالمادة ٢١ “طلبات الاستيضاح” التي تضمنت نصاً صريحاً يمنع المساس بالمؤهلات خلال مراحل الشراء (فقرة ١ – ٢).
– بالمادة ٥٢ التي ألزمت الجهات الشارية تضمين ملفات التلزيم المعايير والإجراءات التي تُطبَّق، وفقاً لأحكام المادة 7 من القانون، للتأكُّد من مؤهّلات العارضين وأيّ إثبات إضافي بشأن تلك المؤهّلات؛ كما والمتطلّبات المتعلّقة بالمستندات الثبوتية لتوفُّر المؤهلات أو غيرها من المعلومات التي ينبغي أن يقدّمها العارضون لإثبات مؤهّلاتهم؛
– بالمادة ٥٥، وتحديداً الفقرة الرابعة منها التي نصت على أنه يكون على الجهة الشارية رفض العرض إذا كان العارض غير مُؤهَّل بالنظر إلى شروط التأهيل الواردة في دفتر الشروط وتطبيقاً لأحكام المادة 7 من القانون؛
– بالمادة ٣٣، البند: ثالثاً، التي أجازت للجهات الشارية فسخ العقد في حال فقدان أهلية الملتزم (والتي تعتبر المؤهلات من ضمنها).
وعندما وضع قانون الشراء العام الأمر في يد الجهات الشارية في المادة ١٠٢ منه، لم يتركه لسلطتها الاستنسابية المطلقة، بل قيده بنصوص تضمن تحقق معايير التأهيل ضمن منافسة متكافئة ومتوازنة في ظل رقابة هيئة الشراء العام بالاستناد إلى المادة ٧٦ من قانون الشراء العام.
وتُلزَم الجهات الشارية بأن تلائم المؤهلات المطلوبة مع المتطلبات الدنيا المحددة في وصف موضوع الشراء بشكل يحقق القيمة المطلوبة ولا يحد من المنافسة. ويتوجب عليها وفقا لنص الفقرة الأولى من المادة ١٧ من قانون الشراء العام تحديد «أوصاف موضوع الشراء تحديداً واضحاً ووضع المعايير التي ستستخدمها في تقييم العروض المقدّمة، بما في ذلك المتطلبات الدنيا التي يجب أن تفي بها العروض المقدَّمة كي تُعتَبر مستجيبةً للمتطلبات والمواصفات المطلوبة، وكيفية تطبيق تلك المتطلبات الدنيا»، على أن «تكون المواصفات متناسبة مع الحاجة المطلوبة ولا توضَع ولا تُصاغ على الوجه الذي يؤدي إلى استبعاد عارضين بصورة غير مشروعة». كما تُلزَم الجهات الشارية وفقا لأحكام المادة ١٨ من قانون الشراء العام بتحديد معايير التقييم التي سيتم على أساسها تقييم المؤهلات والمواصفات على حد يضمن التوازن بين المنافسة والفعالية، وهي أيضاً ملزمة بتبيان كيفية تطبيق هذه المعايير في ملفات التلزيم عملا بقواعد الحوكمة والشفافية.
وفي الخلاصة، فقد أوجب قانون الشراء العام على الجهات الشارية وضع المؤهلات في دفاتر الشروط التي تحضرها باعتبارها شرطاً من شروط المشاركة في الشراء العام. كما حدد القانون طريقة إعداد هذه المؤهلات وتطبيقها ووضع معاييرها وواكب الإجراءات المتعلقة بمؤهلات العارضين والملتزم خلال كامل عملية الشراء منذ بدئها وصولاً إلى التنفيذ والاستلام. وتقوم هذه المؤهلات على مبدأ العلاقة التناسبية مع موضوع الشراء مع مراعاة تطبيق الإجراءات التنافسية قاعدةً عامة وإتاحة فرص متكافئة دون تمييز للمشاركة في الشراء العام ودون الإخلال بالفعالية وتحقيق القيمة الفضلى المرجوة من مشروع الشراء.
#الصفقات العمومية
فريق المعهد اللبناني لدراسات السوق