خاص LIMSLB: بلدية بيروت تتجاوز القانون عبر استبدال المناقصات بصفقات التراضي

خاص LIMSLB: بلدية بيروت تتجاوز القانون عبر استبدال المناقصات بصفقات التراضي

في خطوة مثيرة للجدل، استبدلت بلدية بيروت المناقصات العامة بصفقات التراضي، متجاوزة بذلك الأطر القانونية المعمول بها. فبدلاً من إجراء المناقصات للمشاريع المتزايدة وفقاً لقانون الشراء العام، لجأت البلدية إلى تمويل هذه المشاريع عبر السلفات لصالح متعهدين محددين. وقد أدى هذا الإجراء إلى تفشي الاحتكار على حساب المنافسة، إضافةً إلى غياب الشفافية وانتشار المحسوبية، ما نتج عنه هدر للمال العام.

 

وتعود بدايات هذه الممارسات المثيرة للقلق إلى العام 2021، حين استحصلت البلدية على رأي استشاري من ديوان المحاسبة يسمح لها بسداد بعض النفقات الاضطرارية من السلفات، وذلك في ظل ظروف استثنائية تمثلت في عزوف الجهات العارضة عن المشاركة في المناقصات بسبب التقلبات الحادة في سعر الصرف. غير أن البلدية سرعان ما توسعت في تفسير هذا القرار، متجاوزةً حدود الضرورة والاستثناء، لتشمل طيفًا واسعًا من الأنشطة والمشاريع، منها: عمليات التشجير، وتقليم الأشجار، وصيانة شبكات الإنارة، وترميم الأرصفة، وشبكات الصرف الصحي، وتركيب الإشارات المرورية، وإعادة تأهيل الحدائق العامة، وشراء المحروقات.

ولعلّ ما يثير الريبة أكثر هو أن هذه التلزيمات باتت تُمنح بشكل حصري لعدد محدود من المقاولين – لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة – عبر آلية التراضي المباشر، بعيدًا عن أعين الرقابة والمنافسة. ولتجاوز القيود القانونية التي تحدد سقف السلفة بـ 500 مليون ليرة لبنانية، تعمد البلدية إلى تقسيم المبالغ على دفعات، في تحايل واضح على القانون. وقد يكون الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو استمرار هذه الممارسات حتى بعد استقرار سعر الصرف نسبيًا منذ آذار 2023 عند حدود 89,500 ليرة للدولار. فبدلاً من العودة إلى الإجراءات القانونية السليمة، واصلت البلدية نهجها في تمويل التلزيمات عبر السلف، متجاهلةً بذلك أحكام قانون المحاسبة العمومية وقانون الشراء العام.

 

وتقوم البلدية في الظاهر بتسيير الأعمال، بينما تنتهج في الباطن أسلوب العمل نفسه قبل دخول قانون الشراء حيز التنفيذ من حيث التوسع في تلزيم المشاريع الصغيرة والكبيرة بالتراضي. ولم تكن هذه الممارسات وليدة اللحظة، بل تمتد جذورها عميقًا في تاريخ بلدية بيروت. فعلى مدار العقد الماضي، شهدت العاصمة اللبنانية سلسلة من المشاريع الملزَّمة بالتراضي، نذكر منها:

  • تلزيم مشروع تركيب كاميرات مراقبة في شوارع العاصمة بيروت بالتراضي في العام 2014 لشركة تعنى بأنظمة المراقبة بقيمة 40 مليون دولار.
  • تلزيم خدمة العلاقات العامة والإعلام والإعلان لبلدية بيروت لشركة علاقات عامة هي شركة “نويز” بالتراضي في العام 2019 بقيمة تتجاوز 246 ألف دولار.
  • محاولة تمرير صفقة تلزيم نقل ومعالجة 200 طن يوميا من نفايات العاصمة بالتراضي في العام 2020.
  • تلزيم 10 متعهدين مشروع تدعيم الأبنية الآيلة للسقوط بالتراضي في العام 2020 عقب تفجير مرفأ بيروت بقيمة ثلاثين مليار ليرة.
  • تلزيم مشروع ري أشجار العاصمة بالتراضي في العام الحالي بقيمة 500 مليون ليرة كل شهرين، تسدد من خلال السلف.

وفي ظل هذه الممارسات، شهدت موازنة بلدية بيروت تضخمًا ملحوظًا. فبينما بلغت موازنة العام 2022 نحو 278 مليار ليرة، من المتوقع أن تتجاوز موازنة 2024 عتبة الـ 3000 مليار ليرة، خصوصًا بعد مضاعفة القيم التأجيرية التي تُحتسب على أساسها الرسوم البلدية بين 10 و20 ضعفًا. ورغم هذه الزيادة في العائدات، لم تفصح البلدية عن تفاصيل موازنتها للعام الجاري، التي أُقرت في آذار الماضي دون إجراء قطع حساب، ما يثير تساؤلات جدية حول كيفية إنفاق هذه الأموال ومدى الرقابة عليها.

ولا يستقيم الوضع في بلدية بيروت إلا من خلال العودة إلى الشراء من خلال المناقصات العمومية. وهذا مطلب يصر عليه المراقب العام في البلدية وبعض أعضاء المجلس البلدي، لا لانسجام الطريقة مع الأصول فحسب، بل لحدّها كذلك من ابتزاز الموظفين وتحولهم إلى سماسرة. فالتلزيم بالمناقصات العمومية التي تراعي قانون الشراء العام كفيلة بتكوين جو من المنافسة وتعزيز المبادرات الفردية والمساهمة في تخفيف النفقات عن كاهل البلدية المرهقة أساسا وتقديم أفضل أنواع الخدمات.

 

بلدية بيروت تعتمد على السلف المالية. تُعتبَر بلدية بيروت واحدة من أكبر بلديات لبنان، يرأس السلطة التنفيذية فيها محافظ بيروت لوقوعها في العاصمة الللبنانية. وتتمتع البلدية بدور إنمائي كبير، وتبلغ موازنتها مليارات الليرات اللبنانية. ولطالما اقترن اسم البلدية بمشاريع إنارة أو صيانة فاشلة ولطالما ارتبط اسم هذه المشاريع بمجلس الإنماء والإعمار. وقد تقزم دور البلدية الإنمائي الكبير اليوم وراحت تلجأ إلى إصدار سلف مالية دائمة وطارئة لإجراء جميع عمليات الشراء لديها. وهي تتذرع برأي استشاري صادر عن ديوان المحاسبة يحمل الرقم 38/2021 بناء على طلب محافظ مدينة بيروت على الرغم من ثبات الأسعار وتقديم عروض أسعار. وتبعًا لهذا الرأي، لا تقوم البلدية بتطبيق أحكام قانون الشراء العام ولا قانون المحاسبة العمومية، متذرعة بطبيعة إنفاقها الممول من هذه السلف.

مخالفة القانون والتجزئة. هكذا، تخالف بلدية بيروت أحكام المادة الأولى من قانون الشراء العام التي تعتبر المنافسة والشفافية والعلنية كما المساواة وتكافؤ الفرص من الانتظام القانوني العام. كما تخالف البلدية الرأي الاستشاري لديوان المحاسبة الذي تتذرع به والمتعلق بطريقة سداد بعض النفقات ولا يعدل قواعد إجراء الصفقات العمومية الملزمة لبلدية بيروت بوصفها إحدى الجهات الخاضعة لأحكامه. وتتمثل هذه الأحكام في المادتين ٤٢ و٤٣ منه في المناقصة العمومية المفتوحة قاعدةً أساسية لا يصح الخروج عنها إلا عند تعذر اعتمادها وفي الحالات الاستثنائية المحددة حصرا في قانون الشراء العام، على أن يتم تطبيق المبادئ التنافسية كلما كان ذلك ممكننا. وكذلك يخالف عدم النشر على الموقع الإلكتروني والتجزئة المعتمدة من قبل بلدية بيروت أحكام المواد 109 و110 و112 من قانون الشراء العام التي تتعلق بالشفافية والنزاهة وتعرض من يخالفها لعقوبات جزائية وتأديبية وغرامات مالية. وعليه، يشكّل تمادي بلدية بيروت باعتماد السلف المالية لإنجاز معاملات الشراء لديها مخالفةً متماديةً ترتب عليها مسؤولية كاملة.

المراقب العام يشتكي على بلدية بيروت.
وقد تردد مؤخرا أن المراقب العام لدى بلدية بيروت مستاء جدا من خروج البلدية عن قواعد قانون الشراء العام وقانون المحاسبة العمومية على الرغم من خضوعها لرقابة ديوان المحاسبة. وقد أرسل هذا الأخير كتابا إلى وزارة الداخلية والبلديات ضمّنه شرحا مفصلا للمخالفات المالية في البلدية وقرارات التجزئة التي لا تتلاءم مع قواعد إدارة المال العام. وقد أشار المراقب، في كتابه المُرسَل إلى وزارة الداخلية والبلديات، إلى أن السلفات المعطاة لتنفيذ أعمال متنوعة (منها تشحيل الأشجار والصيانة الدورية وتأمين يد عاملة وصيانة الآليات وشراء المحروقات وإصلاح الأعطال في البنى التحتية وتنظيف الأقنية وإصلاح النظام المعلوماتي المعتمد) تنفق جميعها دون اتباع أصول الشراء القانونية. كما تتم هذه السلفات خارج إطار قانون المحاسبة العمومية، علما أن السلفات الدائمة والطارئة لا تتعلق بطريقة الشراء المعتمدة أو الواجب اعتمادها، بل هي طريقة دفع استثنائية يُلجأ إليها عند تعذر تنظيم حوالة صرف مسبقة. أما عقد النفقة والطريقة الواجب اعتمادها لتنفيذ إجراءات الشراء، فتبقى كما هي مع سلفة أو دونها. وقد نصّت على هذه القاعدة المادة 93 وما يليها من قانون المحاسبة العمومية وفقا لما يلي:

المادة 93: “يمكن تأدية بعض النفقات بدون حوالة دفع مسبقة على أن تنظم الحوالة فيما بعد على سبيل التسوية.

إن النفقات التي يمكن تأديتها على الصورة المبينة أعلاه هي:

1- الرواتب والأجور وملحقاتها ومعاشات التقاعد وتعويضات حملة الأوسمة العسكرية.

2- النفقات النثرية العادية والنفقات المستعجلة وسوى ذلك من النفقات التي لا تسمح طبيعتها أو الظروف بدفعها مباشرة بالطريقة العادية.”

المادة 97: “تعطى السلفة الدائمة بدون تأشير مسبق من مراقب عقد النفقات. غير أنه لا يجوز للقيم أن يؤدي منها غير النفقات التي سبق عقدها وتصفيتها وفقا للأصول“.

ويتضح من المواد السالفة الذكر أن ثمة نوعًا محددًا من النفقات لا تُمكِن تأديتها سوى بمقتضى السلفات، ولا يجوز التوسع والتمدد في التطبيق ليطول نظام السلفات كل نفقات البلدية. إذ يخالف ذلك القانون من جهة ويتّصف بمخاطر عالية لما يحيط به من غموض من جهة أخرى.

ويتبين من كتاب المراقب العام إلى وزارة الداخلية والبلديات أن بلدية بيروت تنفذ كل نفقاتها بطريقة السلفات، وأن هذا التصرف قد يخفي تجزئة النفقات واعتماد طريقة الفاتورة للتعاقد بطريقة غير مشروعة. كما يتبين أن ذلك يتعارض مع قواعد قانون الشراء العام التي تمنع التجزئة، خصوصًا المادة ١٣ منه. وتجدر الإشارة إلى أن سلفات الموازنة، دائمة كانت أم طارئة، هي طريقة لسداد النفقات لا لإجراء الصفقات. ولذا، نص المشرع صراحة على أنه لا يجوز أن تُدفَع من هذه السلفات إلا النفقات التي سبق عقدها وتصفيتها وفقًا للأصول.

وبعد أن ثبت لدى المراقب العام لبلدية بيروت مخالفة البلدية لقانون الشراء العام لناحية عقد كامل صفقاتها من خارج أحكامه وعدم الالتزام بموجب النشر المرتبط بمبدأ العلنية المعتبر من الانتظام القانوني العام ، توجهت هيئة الشراء بكتبٍ إلى المديرية العامة لرئاسة الجمهورية والأمانة العامة لمجلس النواب والأمانة العامة لمجلس الوزراء وديوان المحاسبة والنيابة العامة لديه والتفتيش المركزي. وقد أكدت الهيئة في هذه الكتب على وجوب خضوع بلدية بيروت لقانون الشراء العام وتطبيق أحكامه تحت طائلة العقوبات المنصوص عليها في المادة 112 منه.

فريق المعهد اللبناني لدراسات السوق