ترميم الاقتصاد بين “جزرة” المساعدات و”عصا” العقوبات
تكبّد الاقتصاد اللبناني خلال 415 يومًا من القصف المتواصل خسائر غير مباشرة بقيمة تقدّر بـ 4.2 مليار دولار، نتيجة التراجع في ناتجه المحلي الإجمالي، مقارنة بـ1.2 مليار دولار في حرب تموز 2006. وقد نتجت هذه الخسائر بشكل أساسي من انخفاض المداخيل في مختلف القطاعات الإنتاجية مثل الصناعة والزراعة، والقطاعات الخدماتية مثل السياحة، مع كل ما يرتبط بها من نشاط المطار، وإشغال الفنادق، وارتياد المطاعم، واستئجار السيارات، وزيارة الأماكن السياحية… والقطاعات المالية من استثمارات وبورصة أسواق ومصارف. وتراجع إيرادات الدولة نتيجة تراجع النشاط الاقتصادي من جهة، وتمديد وزارة المال مهل تسديد الضرائب والرسوم من جهة ثانية.
تُقسّم “الدولية للمعلومات” الخسائر غير المباشرة مرحلتين:
الأولى ممتدة من 8 تشرين الأول 2023، إلى 16 أيلول 2024، إذ قدّرت خسائر الاقتصاد بـ 6 ملايين دولار يومياً، تعادل 10 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، المقدّر بـ 22 مليار دولار. وبلغ مجموعها خلال 343 يوماً 2060 مليون دولار.
الثانية ممتدة من 17 أيلول 2024، إلى 31 تشرين الأول 2024، إذ قدّرت خسائر الاقتصاد بـ 30 مليون دولار يومياً، تعادل 50 في المئة من الناتج المحلي. وبلغ مجموعها خلال 44 يوماً 1320 مليون دولار.
أمّا المرحلة الثالثة غير المقدّرة بعد، فتمتد من 1 تشرين الأول 2024 إلى 27 منه. وإذا افترضنا أنّ حجم الأضرار خلالها يعادل المرحلة الثانية، مع العلم أنّه أكبر، فإنّ الخسائر خلال 27 يوماً ستقدر بـ 792 مليون دولار.
القياس أولًا
وعليه، فإن مجمل الخسائر غير المباشرة على الاقتصاد نحو 4.2 مليار دولار. ورغم فداحة الرقم الذي يشكّل 20 في المئة من الناتج، يبقى أقل حجمًا من الأضرار المادية المباشرة من حيث الشكل، وأسهل وأسرع تعويضًا من حيث المضمون. “على الرغم من أن التعويض سيكون بحسب الأدبيات الاقتصادية على المديين المتوسط والبعيد”، بحسب الدكتور حسن شري أستاذ مادّة الاقتصاد في الجامعة اللبنانية الأميركية، والخبير في شبكة المنظّمات العربية غير الحكومية للتنمية. “وما نستطيع القيام به على المدى القصير على مستوى السياسات العامة الاقتصادية هو جردة الحساب (Stock-taking). على ألّا تقتصر الجردة على إحصاء المحال التي أقفلت أو المنتجات التي لم تسوّق، أو عدد العاطلين عن العمل، وإنّما تتخطاه إلى ضرورة قياس الخسارة المحققة من ضياع الفرصة البديلة. أي العوائد التي كان من الممكن تحقيقها من مشاريع لم نقم بها بسبب الحرب. وهذا كثيرًا ما يجري بعد الحروب والأزمات”.
بناء على التجارب الدولية التي اعتمدت بعد الحروب في أوروبا واليابان وغيرهما من الدول، فإنّ المطلوب اعتماد “خلطة” من السياسات، تشمل القطاعات الخاصة والعامة على السواء، “وهو ما قد يمثّل تحديًا جديًّا في مثل الحالة اللبنانية”، برأي شري. “نظرًا لتعارض المصالح بين مختلف المكونات”. فما هو مطلوب لتنمية القطاع الصناعي وإعادته إلى سكة النمو، قد يتعارض مع مصالح التجار، وما ينفعهما معًا قد لا يصب في مصلحة الدولة والمالية العامة. وللتمكّن من إدارة هذه التناقضات الموجودة أساساً، والمتوقع أن تزيد في المرحلة المقبلة، يجب أن يكون هناك دولة قادرة”، يضيف شري.
خريطة طريق واضحة وصريحة
الخروج من الحرب لا يعني انتهاء الأزمات التي تعصف بلبنان، وإنّما إضافة المزيد من التكلفة المادية والاقتصادية على الانهيار غير المعالج أساسًا. إذ ستضاف تكاليف الحرب المباشرة وغير المباشرة المقدرة بـ 15 مليار دولار في أحسن السيناريوهات، إلى فجوة مالية بقيمة 76 مليار دولار، ودين عام خارجي مع فوائده بقيمة تفوق 40 مليار دولار، ليصبح المجموع العام 131 مليارًا. وهو رقم من الصعب التعامل معه “إن لم نضع لمرة واحدة ونهائية خريطة طريق تعالج المشكلات بالتدرج من الأكثر إلحاحًا إلى الأقلّ ضرورة”، يقول الخبير الاقتصادي وليد أبو سليمان. “والعمل بشكل متناغم ومتوازن بين مساعدة القطاعات الاقتصادية من صناعية وسياحية وتجارية، عبر الإعفاء من الرسوم وتخفيف الضرائب، وتقديم الحوافز للشركات التي توظف يدًا عاملة بنسب معيّنة، وبين تغيير بنية الإيرادات في المالية العامة التي تقوم بشكل أساسي على الضرائب غير المباشرة والرسوم المرتفعة”. فمساعدة القطاعات الانتاجية والخدماتية وتحفيزها مادياً، سيعني تراجع الإيرادات العامة. وبالتالي ارتفاع العجز في الموازنة والعودة إلى الاستدانة وترتيب المزيد من القروض على الاقتصاد، أو طبع الأموال وعودة الضغط على سعر الصرف وارتفاع التضخم. وبالتالي امتصاص كلّ النتائج الإيجابية لتحفيز الاقتصاد. “لذلك يجب على الدولة لمرة واحدة ونهائية إعادة هيكلة قطاعها العام وإصلاحه، وتغيير بنية النفقات والإيرادات من خلال تخفيف الأعباء المالية التي تدفع على الكهرباء والمياه والنقل وغيرها العديد من الخدمات، من خلال التعاون مع القطاع الخاص”، بحسب أبو سليمان. “فتكون قد وفّرت دفع الأموال من جهة، زادت إيراداتها نتيجة توسعة “الصحن الضريبي” من دون الحاجة إلى زيادة المزيد من الضرائب والرسوم. وعلى الدولة من جهة ثانية، أن تعوض تراجع الإيرادات من الضريبة غير المباشرة، بالإيرادات المباشرة ومكافحة التهرب الضريبي والتهريب الجمركي. وهما وحدهما كفيلان بتأمين إيرادات تزيد على 5 مليارات دولار سنويًا للدولة.
الشراكة مع القطاع الخاص
في سياق متصل، يرى رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق الدكتور باتريك مارديني أنّ الأولوية يجب أن تشمل اليوم إصلاحين أساسيين، هما:
– جذب القطاع الخاص للاستثمار بأمواله الخاصة في العديد من القطاعات. فما الذي يمنع وجود شركة أو مجموعة شركات تنتج الكهرباء وتوزعها على المشتركين. وهذا ما يوفر على الدولة تكلفة الاستثمار، ويسرّع إعادة الإعمار، ويحدّ من نسب الهدر والفساد في الصفقات العمومية. وما ينطبق على الكهرباء، ينطبق على غيرها من القطاعات في المياه والنقل…
فرض المنافسة الحقيقية بين العارضين المتعددين في المشاريع التي على الدولة تنفيذها، مثل شق الطرق وبناء الجسور. والخروج كليًا من النظام السابق الذي يقوم على وضع دفتر شروط على قياس عارضين محددين، من دون أن يقدموا بالضرورة أفضل الخدمات ويعطوا أقل الأسعار.
على الرغم من أهمية ما قيل وما يقال، فإنّ “الحرب بالتنظير سهلة”، فيما الواقع أكثر تعقيدًا. “فالإصلاحات المطلوبة على صعيد الشراكة أم مكافحة الفساد، والحصرية، وتنظيم القطاعات وتنميتها تتعارض مع مصالح المعنيين بها”، يشدد أبو سليمان. “فيقرّونها خجلًا، وتحت ضغط الشروط الدولية، ولا يطبقونها على أرض الواقع”.
انطلاقًا مما تقدم، فإنّ مشوار التعافي ليس مستحيلًا، ولكنه صعب ومعقد ويتقاطع مع مصالح الكثير من النخب”. والأمل يلبث في فرض هذه الإصلاحات، وإلزام المجتمع الدولي لبنان بتطبيقها ولو تدريجيًا وبوتيرة بطيئة تحت التهديد بعصا ما هو أسوأ ووعده بجزرة ما هو أفضل.