لبنان بين استجرار الكهرباء من قبرص و«اللامركزية الطّاقوية»: أيهما الحل لإنقاذ البلاد من فشل كهرباء الدولة وهدرها المزمن؟!

لبنان بين استجرار الكهرباء من قبرص و«اللامركزية الطّاقوية»: أيهما الحل لإنقاذ البلاد من فشل كهرباء الدولة وهدرها المزمن؟!

يعاني لبنان منذ سنوات طويلة من أزمة كهرباء حادّة، تفاقمت خلال السنوات الخمس الماضية لتصل إلى مرحلة انقطاع شبه كامل للتيار الكهربائي. إذ تعود أسباب هذه الأزمة إلى تراكم الإخفاقات في إدارة قطاع الكهرباء، وضعف البنية التحتية، ونقص الخطط والسياسات الفاعلة. على الرغم من العديد من المحاولات لحل المشكلة، إلّا أن هذه الجهود لم تُحقق حلول دائمة.
تلقّى رئيس الجمهورية جوزاف عون عرضاً من الرئيس القبرصي نيكوس كريستودوليدس يتمحور حول استعداد بلاده لمدّ كابل بحري لتوريد الكهرباء للبنان. ولترجمة هذا العرض من النوايا إلى أرض الواقع، اتفق الرئيسان على متابعة الملف عبر وزيريّ الطاقة في البلدين.

وسط هذا الواقع الصعب، أعادت المبادرة القبرصية طرح فكرة استجرار الكهرباء من خلال كابل بحري يربط قبرص بلبنان. وعلى رغم الجاذبية الشكلية لهذا الخيار، تبرز تساؤلات هامة حول مدى فعاليته وجدواه، فهل سيكون الربط الكهربائي مع قبرص بداية طريق حقيقي للخروج من الأزمة، أم أنه مجرد مبادرة مؤقتة قد تثقل كاهل لبنان بالديون دون تحقيق نتائج حقيقية؟ وما المصادر الداخلية البديلة؟

مصادر وزارة الطاقة تؤكد: دراسة مشتركة بين لبنان وقبرص!

تقول مصادر وزارة الطاقة والمياه لـ «اللواء» إنه «استناداً إلى المبادرة التي طرحها الرئيس القبرصي خلال لقائه مع رئيس الجمهورية اللبنانية، العماد جوزيف عون، تم عقد اجتماع في قصر بعبدا ضم وزير الطاقة والمياه، بهدف مناقشة سُبل التعاون الممكنة في مجال استجرار الكهرباء من قبرص. وتبع ذلك لقاء تنسيقي مع السفير القبرصي في لبنان، جرى خلاله الاتفاق على متابعة التواصل مع الجهات القبرصية المختصة، وذلك بهدف جمع المعطيات التقنية والفنية والمالية الضرورية».

وتتابع المصادر: «يُنتظر أن يتم إعداد دراسة اقتصادية شاملة، تأخذ في الاعتبار مختلف الأبعاد الفنية والمالية، ليُبنى على نتائجها قرار واضح يستند إلى الأرقام والمعطيات، يحدد ما إذا كانت مصلحة لبنان تقتضي المضي قدماً بهذا الخيار أو التوجه نحو بدائل أكثر جدوى واستدامة».
 
جدوى استجرار الكهرباء من قبرص: تساؤلات وتحدّيات
انطلاقاً من هذه المقدمة، يقول مدير عام الاستثمار السابق في وزارة الطاقة والمياه ومحلّل الشراكة بين القطاعين العام والخاص في المعهد اللبناني بدراسات السوق، الدكتور غسان بيضون إنه «عند النظر في الجدوى الاقتصادية والتقنية لمشروع استجرار الكهرباء من قبرص إلى لبنان، لا بد من التأكيد أن جميع المصادر المتاحة حالياً، سواء المحلية أو الخارجية، تعاني من تحديات كبيرة ومشاكل متراكمة، بل وتُطرح حولها علامات استفهام جدية تتعلق بالفعالية والاستمرارية. ومن هذا المنطلق، فإن خيار استجرار الكهرباء من قبرص لا يخرج عن هذه القاعدة، بل يضاف إلى قائمة التساؤلات المعقدة، مجموعة من الاعتبارات التقنية والمالية التي لا يمكن تجاهلها».
ويتابع: «مدّ كابل بحري يربط بين قبرص ولبنان ليس مشروعاً بسيطاً، بل يتطلب استثمارات ضخمة تُقدّر بمئات الملايين من الدولارات، إلى جانب فترة زمنية طويلة نسبياً لإنجازه. لذا، أطرح أسئلة كثيرة في هذا الخصوص: هل نملك ضمانات كافية بشأن استمرارية هذه الإمدادات على المدى الطويل؟ ثم إذا قررنا، كمثال، أن نستثمر ما يقارب نصف مليار دولار في تنفيذ هذا المشروع، هل فكرنا بما سيؤول إليه هذا الاستثمار في حال تمكنا مستقبلاً من معالجة أزمة الكهرباء عبر حلول داخلية أكثر استدامة وفعالية؟ هل سيكون هذا الكابل البحري عندئذٍ عبئاً مالياً غير مُجدي أو استثماراً بلا عائد؟».
ويضيف: «التفكير بهذه الطريقة لا يعني رفض الفكرة من حيث المبدأ، لكنه يشير إلى ضرورة إجراء دراسة معمقة تأخذ بعين الاعتبار كافة الاحتمالات، وتقارن بشكل دقيق بين هذا الخيار وغيره من البدائل المحلية والإقليمية المتاحة، مع التركيز على الكلفة، والوقت، والمرونة، واستمرارية التزوّد بالطاقة».
 
اللامركزية الطاقوية: الحل الداخلي الأضمن لأزمة كهرباء لبنان؟
في سياق متصل، يوضح بيضون أن «مشروع مدّ كابل كهربائي بحري بين لبنان وقبرص، كما يتم الترويج له، لا يُعدّ حلاً مجدياً من الناحية الاقتصادية، بل من المرجّح أن يزيد من الأعباء المالية على الدولة اللبنانية التي تسعى جاهدة، في ظل ظروف قاسية، للنهوض بالواقع الاقتصادي والخدماتي. كما أنه من غير المنطقي أن يُعوَّل على دول خارجية، لا تملك قرارها السيادي الكامل، في معالجة أزمة حيوية كأزمة الكهرباء في لبنان، خاصة في ظل مخاطر التوقف أو التراجع تحت أي ضغط سياسي أو ظرف إقليمي طارئ، ويبدو أن الطروحات الحالية، بما في ذلك الحديث عن الكابل البحري، لا تتعدّى كونها محاولات لامتصاص النقمة الشعبية، وإعطاء انطباع بأن هناك عملاً جارياً، في حين أن الواقع يفرض البحث عن بدائل أكثر واقعية واستدامة».
أما بالنسبة للخيار الأجدى، والأسرع، فيشرح بيضون أنه «يكمن في التوجّه إلى حلول داخلية قائمة على مبدأ اللامركزية في إنتاج وتوزيع الطاقة، وبخاصة الطاقة المتجددة كالطاقة الشمسية. وقد أثبت هذا النموذج جدواه عملياً، كما هو الحال في تجربة كهرباء زحلة، التي تُعدّ نموذجاً تقنياً ناجحاً على المستوى المحلي».
إذ يتابع: «يمكن للبلديات واتحادات البلديات أن تلعب دوراً محورياً من خلال تلزيم مشاريع إنتاج وتوزيع الطاقة المتجددة بالتعاون مع القطاع الخاص، بل ومن الممكن أيضاً دمج أصحاب المولدات في هذا المسار الانتقالي، ما يخلق منظومة مرنة ومتكاملة. وبالتالي، عندما تقوم وزارة الطاقة والمياه بوضع تعرفة كهربائية عادلة، مدروسة علمياً، ومبنية على تحليل دقيق للتكلفة الحقيقية للإنتاج والتوزيع، يصبح بالإمكان تأمين تغذية كهربائية مستقرة تمتد بين 8 إلى 10 ساعات يومياً، ولمدة تصل إلى 300 يوم في السنة، في معظم المناطق اللبنانية، دون الحاجة إلى انتظار حلول خارجية غير مضمونة».
 
تمويل محلي وسرعة تنفيذ: مزايا الطاقة الشمسية في لبنان
أمام كل هذه المعطيات، يتوقف بيضون أمام أبرز مزايا الطاقة الشمسية المتجددة، حيث يرى أن «تمويلها يمكن تأمينه من مصادر محلية، دون الحاجة إلى انتظار دعم خارجي أو تدخلات دولية، كما أن هناك جهوزية فعلية لدى المستثمرين المحليين الراغبين للدخول في هذا القطاع، إضافةً إلى ذلك، فإن كلفة إنشاء مشاريع الطاقة الشمسية تُعدّ منخفضة نسبياً، خصوصاً عند مقارنتها بتكاليف بناء معامل كهرباء أو بمشاريع استجرار الكهرباء من الخارج مثل الربط مع قبرص».
ويُكمل: «المدّة الزمنية المطلوبة لتنفيذ هذه المشاريع قصيرة نسبياً، إذ تتراوح عادةً بين ستة أشهر وسنة واحدة، ما يجعلها حلاً سريعاً وفعالاً لتأمين جزء مهم من الحاجة الكهربائية،
والأهم من كل ذلك، أن هذه المشاريع لا تتطلب أي ضمانات أو كفالات من أطراف خارجية، مما يمنح لبنان استقلالية أكبر في قراره الطاقوي، ويُجنّبه الدخول في التزامات سياسية أو مالية معقدة».
 
رغم رفع التعرفة… شكوك حول إدارة أموال كهرباء لبنان!
 
تحت هذا العنوان العريض، يعتبر بيضون أن «النقطة الجوهرية اليوم، هي أنه رغم إقدام مؤسسة كهرباء لبنان على رفع التعرفة الكهربائية، بحجة أن هذه الخطوة ستؤدي إلى تحقيق التوازن المالي وتمكين المؤسسة من تغطية نفقاتها التشغيلية من خلال إيراداتها الذاتية، فإن الواقع يُظهر أن المؤسسة ما زالت تعتمد على الدولة لتسديد ثمن شحنات النفط العراقي».
وهنا يطرح بيضون سؤال أساسي وملحّ: «ما هو مصير أموال الجباية التي تجمعها المؤسسة؟ وأين تذهب الإيرادات التي تُحصّل من المواطنين مقابل الخدمات المقدمة؟ إذ إن استمرار هذا النهج يُثير شكوكاً جدية حول فعالية الإدارة المالية في المؤسسة، ويضع علامات استفهام كبيرة حول مدى شفافيتها وقدرتها على الاستقلال المالي الذي يُفترض أنه هدفها الأساسي من تعديل التعرفة».
 
كهرباء لبنان بين الفشل وفرصة اللامركزية
من هذا المنطلق، يؤكد بيضون أن «أي مشروع يهدف إلى تأمين الكهرباء من خلال مؤسسة كهرباء لبنان، ضمن تركيبتها الحالية وأدائها المعروف، هو مشروع محكوم عليه بالفشل المسبق، وسيؤدي حتماً إلى مزيد من الهدر وسوء الإدارة».
وعليه، يتابع: «الخيار الوحيد الواقعي والمُجدي يتمثل في التوجّه الجاد نحو اعتماد نظام اللامركزية في إنتاج وتوزيع الطاقة، باعتباره النموذج الأكثر فاعلية وشفافية، والقادر على استقطاب استثمارات حقيقية ضمن إطار من الشراكة بين البلديات والقطاع الخاص، كما ويجب التخلي عن الخطط القديمة والجديدة التي لم تُثمر سوى الوعود النظرية، والتي اتضح أنها أشبه بعروض إعلامية لا تستند إلى أي أسس تنفيذية فعلية، بل تُكرّس مزيداً من إضاعة الوقت والفرص».
 
الكهرباء في لبنان: أزمة ونفوذ سياسي
وفي الختام، يلفت بيضون إلى أن «الواقع الكهربائي في لبنان واضح، وهو واقع متدهور، يعاني من أزمات مزمنة تُلامس الكارثة، والأهم من كل ذلك، أن تتم معالجة هذا الملف بعيداً عن قبضة الجهات السياسية التي طالما تعاملت معه كمصدر نفوذ واستثمار خاص، وليس كحق أساسي من حقوق المواطنين».