يتركز الفساد في لبنان بشكل أساسي في المناقصات والصفقات العمومية، حيث تتم عمليات التلزيم والشراء الحكومي. تشكل هذه الآلية مع المناقصات العامة المحرك الأساسي للانهيار الاقتصادي الذي يشهده البلد منذ سنوات. تتجلى المشكلة الحقيقية في طريقة إدارة المناقصات والتلزيمات الحكومية، حيث تفتح الباب أمام ممارسات غير قانونية تؤثر على نزاهة العملية التنافسية. تتضمن هذه الممارسات المواربة في وضع الشروط والمواصفات، والتواطؤ بين المسؤولين الحكوميين وبعض المقاولين من القطاع الخاص، والتفاهمات غير المعلنة التي تحدد الفائزين مسبقاً قبل إجراء المناقسة.
يؤدي هذا النهج إلى إقصاء الشركات النزيهة والكفوءة من المشاركة في المناقصات، حيث تكتشف هذه الشركات أن المنافسة غير عادلة وأن النتائج محسومة سلفاً. تنسحب الشركات الجدية تدريجياً من المشاركة في هذه العمليات، تاركة المجال للمقاولين الذين يقبلون باللعب وفق قواعد الفساد المتفق عليها.
يعاني القطاع الخاص النزيه من هذا الوضع أكثر من غيره، حيث تجد الشركات الملتزمة بالمعايير الأخلاقية والمهنية نفسها في وضع غير متكافئ أمام من يسلكون طرقاً ملتوية. تفقد هذه الشركات الحافز للمشاركة في المناقصات العمومية عندما تدرك أن الجهد المبذول في إعداد العروض الفنية والمالية لن يؤتي ثماره إذا لم تكن مرتبطة بشبكة المصالح الفاسدة.
تخلق هذه الحالة بيئة طاردة للاستثمار الجدي والنوعي، حيث يتردد المستثمرون المحليون والأجانب في ضخ أموالهم في مشاريع قد تكون محكومة بمعايير غير شفافة. يفضل العديد من رجال الأعمال النزهاء البقاء بعيداً عن التعامل مع الدولة تماماً، مما يحرم الاقتصاد من استفادة من خبراتهم وإمكانياتهم.
تتطلب معالجة هذه المشكلة إصلاحاً جذرياً في آليات إدارة المناقصات والصفقات العمومية، بدءاً من وضع معايير واضحة وشفافة لجميع مراحل العملية. يجب أن تتضمن هذه الإصلاحات تفعيل دور الهيئات الرقابية المستقلة وضمان حصول جميع المشاركين على المعلومات ذاتها في الوقت نفسه.
يستوجب الأمر أيضاً تطبيق مبدأ الشفافية الكاملة في جميع مراحل المناقسة، من الإعلان عن الحاجة إلى الخدمة أو المشروع، مروراً بوضع الشروط والمواصفات، وانتهاءً بعملية التقييم واتخاذ القرار النهائي. تساهم هذه الشفافية في استعادة ثقة القطاع الخاص النزيه وتشجيعه على العودة للمشاركة في الأعمال الحكومية.
تشكل النزاهة العنصر الأساسي في خلق بيئة تنافسية صحية تخدم المصلحة العامة. تعني النزاهة في هذا السياق التمسك بالبعد الأخلاقي في جميع التعاملات، واحترام القوانين والأنظمة، والالتزام بالمعايير المهنية العالية في تقديم الخدمات وتنفيذ المشاريع.
يؤدي تطبيق مبادئ النزاهة إلى تحسين جودة الخدمات المقدمة للمواطنين وتحقيق أفضل قيمة مقابل المال العام المنفق. كما يساهم في جذب الشركات المتميزة والمبدعة للعمل مع الدولة، مما يرفع من مستوى الأداء العام ويحقق التنمية المستدامة.
تبقى المسؤولية الأساسية على عاتق الدولة لضمان تطبيق هذه المبادئ من خلال وضع الأنظمة والقوانين المناسبة، وتفعيل آليات الرقابة والمساءلة، ومحاسبة كل من يخل بهذه المعايير. فقط من خلال هذا النهج الشامل يمكن استعادة الثقة في النظام الاقتصادي وتحقيق النمو المستدام.