“لا تقول فيول ونفط”… فالثروة الدفينة المعقودة عليها آمال اللبنانيين للخروج من القاع الاقتصادي والنقدي، لا يزال البحث عنها واستكشاف مكامن تجمّعها، وغيره من الأعمال التقنية المطلوبة، للشروع بالإستخراج مستقبلاً. ومهما سُوِّق من تبريرات، رهن وأسير بيروقراطية مستجدة، غير معهودة من شركة بحجم “توتال” عابرة للقارات والدول وتملك، إلى التاريخ العريق في مجالها، المهنية والتنظيم والقدرة على اجتراح النجاحات من دون تعقيدات.
سوء أقدار أم جيوسياسية تعيد الحلم النفطي إلى المربع الأول؟ ربما يكون صحيحا ذلك، وربما الأصح أن ليس من عاقل وخبير نفطي أو ذي صلة، أو عالم جيولوجي سيصدّق بعد اليوم أن بلوكات بحر الجنوب لا تحوي غازا ونفطا، فيما إسرائيل تلزّم بلوكاتها واحدا تلو الآخر، والتي لا تبعد عن البلوكات اللبنانية غير مئات الأمتار.
يعرف الجميع أن المكامن الجوفية في البحر الجنوبي متصلة، وأن شفط النفط واستخراجه أفقيا صار متاحا ومقدورا عليه تقنياً، ويمكن لإسرائيل أن تقوم بذلك بسهولة في ظل أمرين: الأول إستمرار الهدوء على خطوط التماس البحرية وعدم تأثره بتوتر التماس البري، والأمر الثاني، عدم وجود “شافط” أو شركة استكشاف تحدد الكميات الموجودة ومواقعها، اتقاءً لتضارب المصالح مع شركات تتمتع برعاية وحماية أوطانها التي ترتبط مع إسرائيل بعهود وعلاقات جيدة.
ووفق مصادر مطلعة، فإن “الشروط التعجيزية التي رمتها توتال بوجه لبنان، وخصوصا بعد الإنتظار الطويل للخبر السعيد منها حول النتائج التي توصلت إليها، تشي بما لا يقبل الشك بأن أي التزام أو محاولة استكشاف أخرى ستؤول إلى النتيجة عينها، لأن الأقدار التي لا دخل للبنانيين بها، جعلت بحر لبنان وبرّه وجنوبه نقطة تلاقٍ إقليمية ودولية للمصالح والأزمات والتوترات السياسية والعسكرية حيث لا يصلح معها الكلام أو حتى الحلم بالثروة النفطية في الوقت الراهن. فماذا في مستجدات الملف النفطي؟
في 19 كانون الثاني 2024، وافق مجلس الوزراء على تلزيم البلوكين 8 و10، للكونسورسيوم المؤلف من “توتال” و Eni وQatar energy، لكنه عدّل في الشروط المالية التقنية والزمنية، فرفع حصة لبنان المالية وخفّض المهلة الزمنية المفترض خلالها أن تقرر “توتال” اجراء أعمال المسوحات الزلزالية وصولا إلى الحفر. وقد ابلغ وزير الطاقة #وليد فياض هذه التعديلات الى “توتال”، لكنها رفضتها، علما أنه يفترض أن يجري توقيع عقدَي الاستكشاف والاستخراج في البلوكين، الجمعة الماضي، لكن “توتال” لم تبلغ الجانب اللبناني قرارها النهائي، وتاليا لم يتم توقيع العقد معها.
وأكد فياض لـ”النهار” أن “توتال” كانت قد ابلغت أنها تحتاج الى نحو سنة للمباشرة بإجراء المسح البياني لتقرر بعده ما اذا كانت ستجري المسح الزلزالي في البلوك الرقم 8، بذريعة الانتهاء من تقرير نتائج الحفر في البلوك الرقم 9. “لكن جوابنا أن التقرير الذي يتذرعون به ينتهي في أول آذار المقبل، وتاليا لماذا الاصرار على فترة السنة لاتخاذ القرار بالشروع بالمسح الزلزالي، فيما يمكن اتخاذ القرار في غضون 3 أشهر؟ أما بالنسبة الى البلوك 10، فتصرّ الشركة على مهلة سنتين لابلاغ الجانب اللبناني لتقرر ما اذا كانت تنوي الحفر به أم لا، علما أن دفتر الشروط ينص على سنة واحدة، والاهم أن المسوحات الزلزالية الثلاثية الابعاد لهذا البلوك أُنجِزت، وقد تساهلنا مع الشركة عبر اعطائها مهلة 6 أشهر اضافية، لكنها رفضت”.
وكشف فياض أنه سيطلب “تعديل متطلبات المشاركة لتكون متاحة أكثر لأكبر عدد من الشركات، خصوصا حيال الشروط الموضوعة التي تتعلق برأسمال الشركات، إذ ثمة شركات تنقيب عالمية لكنها أصغر يمكن أن توافق على شروطنا، كما يمكنها التنقيب في أمكنة ذات مخاطر عالية مثل لبنان”.
وإذ أوضح فياض أن “التعديل يحتاج الى مرسوم من مجلس الوزراء”، إلا أنه لم يقفل الباب نهائيا أمام عمل “توتال”، مؤكدا أنه “في حال وافقت “توتال” على الشروط التي وضعناها، فإننا سنكون منفتحين للتعاون معها”.
ويستغرب فياض موقف “توتال” الذي طرح في السياق علامات استفهام عدة، خصوصا أن “الطرح الذي تقدمنا به لا يختلف كثيرا عن طرح الشركة”، مؤكدا أنه “مع انقضاء المهل الزمنية التي كان يفترض بـ”توتال” التوقيع خلالها على العقد، سينضم البلوكان 8 و10 الى سلة دورة التراخيص الثالثة”.
يرى الباحث في شؤون الاقتصاد زياد ناصر الدين ان شركة “توتال” تتعاطى مع ملف التنقيب “كملف سياسي، إنْ حيال رفض الاخيرة التعديلات المطروحة من الحكومة اللبنانية على بعض الأمور اللوجستية كالحفر والمدة المتوقعة لانهاء المشروع، أو لجهة اخفائها التقارير عن نتائج الحفر في البلوكات التي عملت عليها سابقا، بما يعكس عدم جدية الشركة في العمل”.
ويعتبر ان عدم التعاطي بجدية مع ملف الغاز اللبناني تفاقم بعد السابع من تشرين الاول، وكأن “توتال” تنتظر شروطا جديدة تتعلق بالملف بأكمله أو كلمة سر دولية، وهو ما يجب ان يواجَه من الدولة اللبنانية بفتح باب منح التراخيص من جديد لشركات جديدة منافسة لـ”توتال”.
كما يشير ناصر الدين الى اهمية اجراء تعديلين للقانون الذي ينظم التنقيب في لبنان، الاول يتمثل بالغاء الشراكة بين الشركات المنقّبة، وتعديل رأس المال المتعلق بالشركات التي تنوي المشاركة في التنقيب في لبنان، خصوصا أن المبلغ المطلوب للرأسمال هو رقم خيالي ويقدر بنحو 10 مليارات دولار.
الى ذلك، تؤكد مصادر على صلة وثيقة بالملف النفطي، ان قرار مجلس الوزراء الصادر بتاريخ 12 كانون الثاني 2024 الذي يلزّم البلوكين 8 و10 لـ”توتال” بشروط معينة، كان يفترض بـ”توتال” من تاريخ تبلغها قرار مجلس الوزراء في 16 كانون الثاني أن توقع على العقد في مدة اقصاها شهر، لكنها تمنعت عن التوقيع في المهلة القانونية التي انقضت في 16 شباط الجاري، ولم تطالب بأي تمديد للمهلة. لذلك يمكن اعتبار العقد ملغى، وان دورة التراخيص الثانية اقفلت من دون تلزيم اي بلوك لأي شركة، وتاليا يمكن عرض البلوكات مجددا في دورة التراخيص الثالثة القائمة حاليا، على أن تحترم “الشركات التي يقع عليها خيار التنقيب قرارات الدولة اللبنانية وقوانينها والمهل التي تفرضها”.
ولا تخفي المصادر عينها ان “ملف التنقيب البحري تسيطر عليه السياسة وتؤثر فيه بصورة مباشرة، بدليل ان لا حرية لكل الشركات العالمية للتقدم بطلب تلزيم للتنقيب في بلوك بحري معيّن، على عكس ما كان حاصلا في مراحل سابقة في لبنان”. وابرزت مثالاً دورة 2013 “حين تقدمت 58 شركة من مختلف البلدان بملفاتها، لكن الدورة الغيت حينذاك بسبب عدم اقرار المراسيم المتعلقة بها لاسباب سياسية، فتأخرت الدورة التالية 4 أعوام ما دفع غالبية الشركات الى سحب ملفاتها”. وفي خصوص اصدار “توتال” التقرير المتعلق بالبلوك الرقم 9، تكشف المصادر ان ثمة اجتماعا سيعقد بين المعنيين في لبنان و”توتال” في 7 آذار لمناقشة التقرير… فالمرسوم الذي ينظم عمل الشركات المنقبة يحدد فترة 6 اشهر بعد انتهاء العمل لتسليم التقرير. وتقول المصادر ان “هيئة ادارة قطاع البترول في لبنان” تنكب حاليا على استقطاب شركات جديدة من جنسيات مختلفة تعمل في مجال التنقيب البحري لفرض منافسة في السوق تحسّن العروض المقدمة في دورة التراخيص الثالثة التي ستنتهي في 2 تموز 2024.
وتطرقت المصادر الى التنقيب البري، فحمّلت المجلس النيابي مسؤولية تجميد هذا الملف، اذ ان القانون الذي ينظم العمل في البرّ اللبناني، قدِّم للجان المجلس قبل 10 سنين ولم يقرّ بعد.