سحب الودائع بقيمة مليون دولار من أحد المصارف التجارية قد يستغرق في العادة بضع دقائق فقط. لكن، في حال كانت هذه الوديعة لدى أحد المصارف اللبنانية، فإن الأمر بات يستغرق أكثر من 200 عام.
هذا أقصى ما تمكنت من تحقيقه التحركات والاحتجاجات الشعبية ضد تمنّع المصارف التجارية عن ردّ الودائع لأصحابها على مدى 4 سنوات من الأزمة، بما تضمنه ذلك من مظاهر اقتحام لعدد من الفروع بقوة السلاح، أو إحراقها؛ إذ أنه وبموجب التعاميم المتعاقبة التي أصدرها مصرف لبنان (البنك المركزي)، لا تسمح البنوك اليوم للمودعين لديها سوى بسحب 400 دولار شهرياً أو ما يعادل 4800 دولار سنوياً فقط من ودائعهم، بغض النظر عن حجم الوديعة.
على ما يبدو، لا توجد في الأفق أي بوادر لحل جذري لهذه الأزمة. فالحكومة نأت بنفسها عن التدخل في هذا الملف، تاركة إدارة الأزمة بين يدي مصرف لبنان والبرلمان اللبناني، بحسب مدير المعهد اللبناني لدراسات السوق، باتريك مارديني.
قال مارديني لـ”إرم بزنس”: “لا توجد توجيهات حكومية جديدة بشأن أزمة الودائع.. المصارف تلتزم بالتعاميم الصادرة عن مصرف لبنان سابقاً”.
رئيس حكومة تصريف الأعمال في لبنان نجيب ميقاتي، قال في يناير الماضي إن حكومته بصدد وضع خطة تمكّن أصحاب الودائع التي لا تزيد على 100 ألف دولار من سحبها. غير أن هذا الكلام لم يتحول إلى فعل حتى الآن، وظلّت الأمور على حالها من دون أي تحديث.
في المقابل، فإن الودائع التي تتجاوز قيمة الواحدة منها 100 ألف دولار، ستُعاد على الأرجح إلى أصحابها في إطار “خطة زمنية أطول وبطرق مختلفة” بحسب ما قاله مدير قسم البحوث الاقتصادية والإحصاءات في جمعية المصارف اللبنانية، إلياس أشقر، والذي أضاف لـ”إرم بزنس” أن تلك الخطة قد تتضمن إنشاء صندوق سيادي لاسترداد الودائع، فضلاً عن إجراء عمليات إعادة هيكلة أو (Bail in) تجعل المودعين مساهمين في المصارف.
يشير المصطلح المالي (Bail in) أو “الإنقاذ” إلى عملية يتم من خلالها إنقاذ مؤسسة مالية متعثرة عن طريق تحويل جزء من ديونها إلى أسهم في المؤسسة. وهذا يعني أن الدائنين والمودعين يتحملون جزءاً من تكلفة إعادة هيكلة المؤسسة، بدلاً من اللجوء إلى الأموال العامة أو دافعي الضرائب؛ لأنها باختصار وسيلة لتحقيق استقرار النظام المالي من دون اللجوء إلى عمليات الإنقاذ الحكومية.
مخاطر وتحديات
غير أن مقترح إنشاء صندوق لاسترداد الودائع، لا يلقى ترحيباً واسعاً، بل إنه يجد من يعارضه أيضاً. وفي هذا السياق قال خبير المخاطر الاقتصادية والباحث الاقتصادي في كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية في بيروت، محمد فحيلي، إن هناك مخاطر محتملة وتحديات عديدة ينطوي عليها المقترح. وأضاف لـ”إرم بزنس”: “تاريخ الفساد الطويل داخل الحكومات اللبنانية المتعاقبة، يجعل من إنشاء صندوق لاسترداد الودائع أمراً شبه مستحيل”.
بحسب فحيلي، فإن “بعض المصارف اللبنانية تستفيد حالياً من ارتفاع أسعار الفائدة الأميركية عبر استثمار سيولتها في فرص ذات عوائد مرتفعة، بدلاً من تلبية مطالب المودعين أو دعم الوكلاء الاقتصاديين المتعثرين”. والأسوأ أن “هذه الممارسات تتم تحت إشراف مصرف لبنان”، وفق فحيلي.
لذلك، فإن الحل الأفضل للأزمة -كما يقول- يكمن في إدارة الدولة الفعالة لأصولها، من دون الحاجة إلى إنشاء صناديق سيادية أو مؤسسات مستقلة، وذلك من خلال تنفيذ إصلاحات في إدارة مؤسسات القطاع العام، ولا سيما الشركات المملوكة للدولة، ما قد يعزز إيرادات الدولة ويسهم في تحقيق ميزانية متوازنة.
شروط قاسية
في ظل الوضع القائم، تضع المصارف التجارية شروطاً قاسية على المودعين لديها، تمنعهم من إجراء عمليات سحب لكامل ودائعهم، وفقاً لمارديني.
ويوضح أنه في حال رغبة أحد المودعين بسحب وديعته بالكامل، يقوم البنك باحتسابها على أساس سعر الصرف الرسمي المحدد من قبل مصرف لبنان، والبالغ 15 ألف ليرة لبنانية للدولار الأميركي، في حين أن سعر الصرف الذي يتعامل به اللبنانيون في السوق يبلغ 89 ألف ليرة لبنانية مقابل الدولار الواحد. “هذا يعني أن المصرف يقتطع نحو 80% من قيمة الوديعة في حال سحبها بالكامل”.
اللجوء إلى القضاء
قد يتساءل البعض: لماذا لا يلجأ أولئك الذين يطالبون بأموالهم إلى السلطة القضائية ليتمكنوا من استردادها من دون تكبّد عناء الانتظار طويلاً، لا سيما وأن الودائع تخسر من قيمتها الفعلية مع مرور الزمن نتيجة التضخم؟
الإجابة عن هذا التساؤل سهلة ويعرفها جميع اللبنانيين، وهي أن أزمة الودائع مرتبطة بأزمة اقتصادية ومالية شاملة وأكثر عمقاً تعيشها البلاد ككل، وهذا فضلاً عن أن البنوك التجارية محمية بتعاميم من مصرف لبنان.
لكن على الرغم من ذلك، كانت هناك بعض الحالات التي لجأ فيها مودعون إلى القضاء، كما حدث مع بعض المودعين المقيمين في المملكة المتحدة وفرنسا، حيث لجأوا إلى المحاكم الأجنبية لاسترداد ودائعهم، وحصلوا على أحكام لصالحهم، ما شكل تهديداً بالحجز على أموال المصارف اللبنانية في الخارج، ودفع بعضها إلى تسديد أموال المودعين، بحسب مارديني.
خطط معلقة
استكمالاً لفصول الأزمة، قدّمت مؤسسات دولية عدة، من بينها صندوق النقد والبنك الدوليان وغيرهما، خططاً وإرشادات عدة لحل الأزمة، إلا أن كل هذه الخطط بقيت في أدراج المسؤولين، ولم يُفصح عن أي تفاصيل بشأنها.
من بين تلك الخطط، خطة لاتحاد المصارف العربية، قدّمها للحكومة اللبنانية وللأطراف ذات الصلة، وهي عبارة عن مشروع خطة إصلاحية متكاملة، تضمنت أهمية التشديد على إلغاء أسعار الصرف المتعددة، وتحديد سعر الصرف، بالتوازي مع مجموعة من التدابير والضوابط المالية والنقدية.
يقول رئيس قسم البحوث في اتحاد المصارف العربية، علي عودة، إن تلك الخطة طُرحت على رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، وصندوق النقد الدولي، وتم الأخذ ببعض نقاطها، لا سيما الحلول المتعلقة بسعر الصرف والودائع. ويضيف لـ”إرم بزنس”: “للأسف، لم يتم تنفيذها حتى الآن بسبب عدم وضع خطة إصلاح من قبل الحكومة اللبنانية بشكلها النهائي”.
صرخة المودعين
على ما يبدو، ستظل أزمة الودائع في لبنان معلقة إلى أجل غير مسمى. ولولا بعض التحركات التي تقوم بها جمعية “صرخة المودعين”، لأمكن القول إن الملف وُضع في أدراج النسيان كما غيره الكثير من الملفات في لبنان.
الجمعية غير الربحية التي تأسست عقب اندلاع الأزمة بهدف “حماية حقوق المودعين من المصارف”، يبدي القائمون عليها خيبة أمل تجاه تقاعس مجلس النواب اللبناني عن القيام بدوره. وخلال الاعتصامات التي تنفذها الجمعية، يتفاعل النواب بحماسة متفاوتة مع المطالب، وإن كان معظمهم يبدون تفهماً ودعماً لها، لكن دون القيام بأي مبادرة جدية بحسب ما قاله لـ”إرم بزنس” رئيس الجمعية علاء خورشيد.
يقول خورشيد: “مجلس النواب لم يقم بعمل جدي حتى اليوم لرد الودائع”. ويضيف أنه التقى قبل أسبوعين رئيس حكومة تصريف الأعمال، حيث أكد له رفض الجمعية لأي خطة لا تضمن استرداداً كاملاً لأموال المودعين، وأن “مقترح فك الارتباط بين المودع والبنك، مرفوض”.
خورشيد الذي طالب باسم جمعيته الحكومة اللبنانية والمصرف المركزي والمصارف اللبنانية، بالالتزام بمسؤولياتهم تجاه المودعين والعمل على إعادة ودائعهم بشكل عادل وشفاف، قال إن رئيس حكومة تصريف الأعمال قدم وعداً بعقد اجتماع مع اللجنة المعنية بالخطة المالية لمناقشتها وتقديم الملاحظات لها. وأضاف: “علينا أن ننتظر”.