عند كل نفاد مستجد لفيول معامل الكهرباء، والتهديد بتزايد ساعات التقنين وقساوتها، تعود إلى الواجهة مسألة تمويل ثمن الفيول، وتطفو على السطح نقطة الخلاف الحادة بين وزارة الطاقة والمياه ومصرف لبنان. ففي حين يطالب وزير الطاقة بتحويل “فريش دولار” من حساب الدولة لشراء الوقود العراقي، يصرّ مصرف لبنان على أنه غير معني بذلك، وعلى وزارة الطاقة التي تملك حسابا مصرفيا لديه أن تستخدمه لدفع ثمن شحنات الوقود.
والمعلوم أن الاتفاق مع العراق جاء على خلفية عدم قدرة لبنان على تأمين السيولة المالية الكافية لسداد كلفة الفيول، فقدم العراق تسهيلات، منها تأجيل استحقاق الدفع لمدة عام واستخدام الأموال لقاء سلع وخدمات من السوق اللبنانية.
ولكن عند كل تأخير في الدفع، يسارع لبنان إلى التواصل مع الجانب العراقي، مع وعود بضمان انتظام الدفع. وآخرها كان تدخل رئيس حكومة تصريف الأعمال #نجيب ميقاتي ووزير الطاقة #وليد فياض لدى العراقيين للقيام باستثناء، بينما يقوم مجلس النواب اللبناني وحاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري باستكمال النهج للسماح بنقل المستحقات العراقية إلى الحساب العراقي في مصرف لبنان، الذي كان قد أكد حاكمه بالإنابة وسيم منصوري أنه لا يمكن الإنفاق من خارج مواد الموازنة إلا بعد إقرار قانون يخوله ذلك.
فائض حساب الكهرباء غير كاف؟
أما وقد تمت معالجة الموضوع بما هو متيسر من وعود، فاللافت هو الحديث عن وجوب سداد مصرف لبنان مبلغا يفوق المليار دولار ثمن الفيول العراقي، علما أنه سبق لوزارة المال أن سددت مبلغا يفوق الـ 500 مليون دولار محلي (لولار) على دفعات، إلى حساب البنك المركزي العراقي المفتوح في مصرف لبنان، ثمنا لهذا الفيول.
وينص الاتفاق مع العراقيين على سداد المبالغ وفق سعر منصة صيرفة، على ألا يقل عن 15% من سعر الدولار في السوق الموازية، بما يعني تحمل مصرف لبنان فارق السعر بين 15 ألف ليرة و89500 ليرة لكل دولار، وهذا ما رفضه مصرف لبنان.
ملف النفط العراقي يستدعي في رأي مدير المعهد اللبناني لدراسات السوق باتريك مارديني تشكيل لجنة برلمانية للتحقيق في ما إذا كان العراقيون أفادوا من خدمات طبية في المستشفيات الحكومية وقيمة المبالغ التي أنفقت، وتحديد المسؤوليات في حال التقصير.
وينبغي للجنة كذلك التحقق من احترام العقد للقواعد المرعية، خصوصا بعدما تبين أن ما سمي تبادلا في حينه تحوَّلَ اليوم إلى شراء عام. إذ يبدو وفق مارديني أن “الصفقة كانت رضائية وبعارض وحيد وبشروط مفصلة على قياس العارض، بما يخالف قواعد المنافسة والعلانية وتكافؤ الفرص، وتم إيهام الرأي العام بأنها صفقة “تبادل” لتمرير هذه المخالفات”.
والأهم أن تحقق اللجنة في حجم إنتاج الكهرباء من الفيول العراقي، “لا سيما أن وزارة الطاقة كانت قد رفعت تعرفة الكهرباء لتغطية كلفته، مع وعود بتحسين الجباية. وعليه، ينبغي أن تملك كهرباء لبنان في حساباتها مبلغا يعادل كلفة الفيول”.
إلى ذلك، تؤكد مصادر مصرف لبنان لـ”النهار” أن الفائض في حسابات كهرياء لبنان في الأشهر الستة الأولى من العام 2024 بلغ ما يوازي نحو 32 مليون دولار “فريش” فقط، لا يكفي لشراء فيول لأكثر من أسبوع. وتاليا، فإن كهرباء لبنان، رغم رفع التعرفة، لا تزال في حال خسارة وعجز كبيرين، وإيراداتها تذهب لدفع مستحقات مقدمي الخدمات، ولتسديد الرواتب والأجور لموظفي الكهرباء وتكاليف الصيانة.
وفي رأي المصادر عينها، أن الحل للخروج نهائيا من معضلة تأمين التمويل للكهرباء هو الشروع في تطبيق الخصخصة على القطاع برمته، أو المشاركة بين القطاعين العام والخاص، ووقف الاتكال على تمويل الدولة وإرهاق الخزينة، خصوصا أن قبول مصرف لبنان بتسديد المتوجبات المالية للاتفاق مع العراق ليس دائما، وهو مشروط بإقرار قانون في المجلس النيابي يحدد الأطر القانونية للدفع.
ويعتبر مارديني أن وزارة الطاقة تسعى إلى التعتيم على كل ما سبق والهروب إلى الأمام، من طريق فتح معركة استنزاف أموال الحكومة في مصرف لبنان بدل اللجوء إلى ما ينبغي أن يكون متوافرا في حسابها. ووفقا لأحدث البيانات المتاحة من الميزانية العمومية لمصرف لبنان، تبلغ ودائع القطاع العام في المصرف المركزي نحو 433 تريليون ليرة، أي ما يعادل 4.84 مليارات دولار بسعر الصرف الحالي. وفي المقابل، تصل قيمة القروض الممنوحة من المركزي للقطاع العام إلى ما يقارب 1,487 تريليون ليرة، أي ما يعادل 16.63 مليار دولار. وفي ضوء هذه المعطيات، يبلغ صافي موجودات القطاع العام في مصرف لبنان 11.8 مليار دولار، وهو دين على الحكومة تحاول وزارة الطاقة توسيعه من خلال تمويل نفقاتها.
أما الاستخدام الطبيعي والأنسب لودائع الحكومة في مصرف لبنان، فيقضي وفق مارديني بسداد جزء من ديونها إلى مصرف لبنان. إذ تسمح هذه العملية بخفض الفجوة المصرفية بمقدار 4.84 مليارات دولار. وعلى الرغم من كون هذا الخفض محدودا مقارنة بإجمالي الفجوة، فهو يمثل خطوة مهمة يمكن أن تنعكس إيجابا على القطاع المصرفي. فالأموال التي اقترضتها الحكومة من المصرف المركزي هي في الأساس للمودعين، استدانها مصرف لبنان من المصارف التجارية.
وبعد كل ما عاشه لبنان من ظروف صعبة بسبب الانهيار الاقتصادي، حان وقت تغيير نهج بعض الوزارات التي تسعى على الدوام إلى وضع يدها على أي قرش تجده في مصرف لبنان، غير آبهة بالدين العام وبالأزمة المصرفية وباستقرار الليرة. فقد أدى هذا النهج في الماضي في رأي مارديني إلى مراكمة كهرباء لبنان ووزارة الطاقة أكثر من 40 مليار دولار من الدين على الدولة بسبب نفقات الكهرباء والفوائد عليها. ويقترح في السياق، تسهيل دخول منافسين إلى سوق الكهرباء إلى جانب كهرباء لبنان (على غرار المدارس الخاصة الموجودة إلى جانب المدارس الرسمية) لتزويد اللبنانيين التيار الكهربائي ومنع ابتزازهم بالعتمة كلما رغبت وزارة الطاقة في الاستحواذ على المال العام.
اضغط هنا لقراءة المقال على موقع النهار