تُعدّ الصفقات العمومية، بشكل عام، من أكثر الأنشطة تعرضاً للفساد في العالم، لذا تعمد الدول كافة إلى استصدار قوانين وأنظمة ترعى مجرياتها، وهي تطورها باستمرار لتتماشى مع متطلبات العصر والعمل. كما تُنشئ لهذه الغاية هيئات رقابية تمنع حصول أي تجاوز أو مخالفة. وفي لبنان، تقع صفقات عموميّة عديدة رهينة صنفين من المسؤولين، الأول اتخذ من نفسه تابعاً فأُجبر على تنفيذ مصلحة من يعلوه شأناً، والثاني زاد في نفسه الجشع فأعماه عن الصواب واحترام المسؤولية التي أنيطت به.
يصنف قانون العقوبات اللبناني جرائم الفساد كما يلي: (1) الرشوة وهي جريمة يرتكبها الموظف العام إذا ما التمس، أو قبل هدية أو مقابلاً لإنجاز مهامه أو الامتناع عنها. (2) صرف النفوذ وهي جريمة يلتمس مرتكبها أو يقبل مقابلا لتسهيل حصول غيره على وظيفة أو عمل يخص الدولة. (3) الاختلاس وهي جريمة يأخذ فيها الموظف النقود أو الأموال الموكل إليه، بحكم وظيفته، إدارتها أو غير ذلك. (4) استثمار الوظيفة وركنها المادي هو أن يغش الموظف في الأعمال الموكلة إليه لإدارة أو بيع أو شراء ما تمتلكه الدولة ولها صور عديدة.
ولعلّ الصفقات العمومية هي الميدان الأوسع لارتكاب جرائم الفساد المذكورة آنفاً، فمقترف جريمة الرشوة هو موظف في الشراء العام، أي القطاع الذي يناط به إدارة الصفقات العمومية وإتمامها، ومرتكب جريمة صرف النفوذ هو صاحب قرار في مجال المشتريات العمومية يتخذ قراره مقابل التأثير في مجريات عملية الشراء. والاختلاس يرتكبه الموظف الموكل إليه حفظ المشتريات العامة وإدارة المال العام. أمّا المادة 363 من قانون العقوبات التي تتعلق بشكل خاص بالشراء العام والصفقات العمومية، فتتناول الغش، والمماطلة، والتواطؤ، ومخالفة موجبات التنفيذ. من هنا تبرز أهمية تنفيذ قانون العقوبات لمعاقبة المرتكبين في الصفقات العمومية.
ويبقى الأخطر من كل ذلك استغلال السلطة وتدخّل الوزراء المعنيين بالصفقات بصورة مباشرة وعلنية، كما حصل في صفقة الفيول في كانون الأول 2023، وهو ما أوجب تدخل هيئة الشراء العام والطلب من الوزير”الالتزام بأحكام قانون الشراء العام وإعادة إجراء المناقصة مع إعطاء مهلة كافية للعارضين لتقديم عروضهم وإضافة شرط التصريح عن صاحب الحق الاقتصادي لكلّ عارض يشارك في المناقصة”. كما دعته الهيئة إلى “وجوب التقيّد بنصّ المادة 100 أولاً – الفقرة الأولى من قانون الشراء العام لجهة وجوب أن تتصرّف لجنة التلزيم بشكل مستقلّ عن الجهة الشارية في كل أعمالها وقراراتها”. ومن هذه الصفقات صفقة البريد وما ذكر عنها في تقرير ديوان المحاسبة أنها تمت وفق ما يُعرف بالمحاباة، ما جعل جميع التعديلات التي لحقت بالعقد الأول الموقع معها لمصلحة الشركة وليس الدولة.
تتعدّد أوجه الفساد في الصفقات والمناقصات وتهدف بمعظمها إلى تمكين الوزير من اختيار الشركة الرابحة على أساس المحاباة عوضاً عن تحفيز المنافسة بين عدد كبير من الشركات من أجل اختيار الأكفأ. ويظهر ذلك جليا من خلال إصرار بعض الوزراء على إعداد دفتر شروط على قياس عارض، أو تجزئة العقود وتجميعها، أو التلاعب بالإعلانات وبالمهل القانونية المرتبطة بها لإقصاء العارضين. فمثلاً حدد قانون الشراء العام مهلة الإعلان بواحد وعشرين يوماً وسمح بتخفيضها استثنائياً إلى خمسة عشر يوماً، ولكن بات الاستثناء هو القاعدة على الدوام. ولا ننسى في هذا الصدد نوعية الإعلان، فلعلّ أحد أوجه الفساد عدم الإعلان بشكل كافٍ أو موسع عن التلزيم حين يقتصر على شكليات لا تؤدي الغاية المنشودة. هذه السلوكيات تعزز شبهات الفساد التي عددنا أوجهها سابقاً من رشوة، واختلاس، وصرف نفوذ، واستثمار الوظيفة، معطوفةً على الفساد بالعِناد، وهو نوع جديد لم تعرفه دولة في العالم قبل لبنان، وتتجلى مظاهره بجرأة وإصرار الوزراء على تمرير هذه الصفقات.
وتتوسع شبكة الفساد في لبنان وتتشعب ولا تقف عند مناقصة أو عقد شراكة. فبعد أن انعدمت المحاسبة واختلّ ميزان الرقابة، توسعت دائرة التجاوزات لتشمل مختلف القطاعات. عندها دارت الشكوك حول كل ما يقع ضمن الصفقات العمومية. ففي ظل تحلل مؤسسات الدولة، تصبح القوانين إما مخدّرة وإمّا أداة غب الطلب تحضر عند الحاجة. وفي الواقع، فقد كان قانون الشراء العام هو النصل الذي وُجِد ليقطع الخيوط المشبوهة في إدارة الصفقات، لكن المنتفعين إياهم جعلوه نصلاً كي لا يقطع، وذلك من خلال الالتفاف على مواده وتحوير بعضها لتتناسب مع تطلعاتهم. وقد حاول هؤلاء في العديد من المواد التملص من القانون بالكامل وكأنه لم يكن يوماً.
تعريف الفساد في القوانين اللبنانية. عُرِّف الفساد في المادة الأولى من قانون مكافحة الفساد في القطاع العام وإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد على أنه استغلال السلطة أو الوظيفة أو العمل الـمتصل بالـمال العام بهدف تحقيق مكاسب أو منافع غير مشروعة لنفسه أو لغيره، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وتعتبر من أفعال الفساد الجرائم الواقعة على الإدارة العامة والـمنصوص عليها في الفصل الأول من الباب الثالث من الكتاب الثاني من قانون العقوبات ما خلا النبذة الرابعة منه، والإثراء غير الـمشروع، وأفعال الفساد التي ترد في الاتفاقيات والـمعاهدات الدولية التي انضم وسينضم إليها لبنان والتي تعنى بمكافحة الفساد. وقد اعتبرت المادة الثانية من هذا القانون جريمة فساد كل جريمة منصوص عليها في القوانين اللبنانية تتعلق بفعل فساد وفق تعريف الـمادة الأولى من هذا القانون. وقد جاء في المادة الثالثة، الفقرة (أ) من هذا القانون ما يلي: يعتبر أيضاً جرائم فساد نيل الالتزامات أو سوء تنفيذها أو الاستحصال على الرخص من أحد أشخاص الحق العام جلباً للـمنفعة الخاصة إذا حصل أي منها خلافاً للقانون.
وبالاستناد إلى ما سبق، نرى أن التشريع اللبناني أعطى تعريفا عاما للفساد يتمثل باستغلال السلطة أو الوظيفة أو العمل الـمتصل بالـمال العام بهدف تحقيق مكاسب أو منافع غير مشروعة للمستغل أو لغيره، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وهو تعريف يقترب من تعريفات أعطيت له من قبل منظمات وهيئات إقليمية أهمها منظمة الشفافية العالمية التي اعتبرت الفساد استغلال موقع وظيفي لتحقيق منفعة خاصة.
كما عدّد التشريع اللبناني جرائم الفساد على سبيل المثال لا الحصر موردا منها ما يلي:
أولا: الجرائم الـمنصوص عليها في قانون العقوبات
ثانيا: جريمة الإثراء غير الـمشروع
ثالثا: أفعال الفساد التي ترد في الاتفاقيات والـمعاهدات الدولية التي انضم وسينضم إليها لبنان والتي تعنى بمكافحة الفساد ،
رابعا: كل جريمة منصوص عليها في القوانين اللبنانية تتعلق بفعل فساد وفق تعريف الـمادة الأولى من هذا القانون.
جرائم الفساد في قانون العقوبات. يعدد قانون العقوبات على جرائم الفساد في الفصل الأول من الباب الثالث من الكتاب الثاني (النبذات الثلاث) كما يلي:
1- الرشوة: نصّت على جريمة الرشوة في القطاع العام المادتان ٣٥١ و٣٥٢ من قانون العقوبات، وركنها المادي أن يلتمس فاعلها، أو يقبل لنفسه، أو لغيره هدية، أو وعدا، أو أي منفعة أخرى،
– ليقوم بعمل شرعي من أعمال وظيفته.
– او ليعمل عملا منافيا لوظيفته أو يدعي أنه داخل في وظيفته أو ليهمل أو يؤخر ما كان عمله واجبا عليه.
أما جريمة الرشوة في القطاع الخاص فنصت عليها المادة ٣٥٤ من قانون العقوبات وركنها المادي أن يلتمس فاعلها، أو يقبل لنفسه، أو لغيره هدية، أو وعدا، أو أي منفعة أخرى،
– لكشف أسرار أو معلومات تسيء إلى العمل، أو
– للقيام بعمل أو الامتناع عنه بقصد إلحاق الضرر المادي أو المعنوي بصاحب (أو بصالح) العمل.
2- صرف النفوذ: نصت عليها المادة ٣٥٧ من قانون العقوبات، وركنها المادي أن يأخذ فاعلها أو يلتمس أجرا غير واجب أو يقبل الوعد به سواء كان لنفسه أو لغيره بقصد إنالة آخرين أو السعي لإنالتهم وظيفة أو عملا أو مقاولات أو مشاريع أو أرباحا أو منحا من الدولة أو إحدى الإدارات العامة أو بقصد التأثير في مسلك السلطات بأية طريقة. ولعلّ القاسم المشترك بين جريمتي الرشوة وصرف النفوذ هو قبول (أو التماس) ما هو غير متوجب مقابل عمل مباشر أو امتناع عن عمل من قبل الفاعل في جريمة الرشوة، ومقابل التأثير لدى الغير لحصول العمل أو الامتناع عنه في جريمة صرف النفوذ، علما أن جريمة الرشوة في القطاع العام يفترض بفاعلها أن يكون موظفا أو من بحكمه علما أن الركن المفترض غير قائم في جريمة صرف النفوذ.
3- الاختلاس واستثمار الوظيفة: نصت على جريمة الاختلاس المادة ٣٥٩ من قانون العقوبات وركنها المادي قيام فاعلها باختلاس ما أوكل إليه أمر إدارته أو جبايته أو صيانته بحكم الوظيفة من نقود أو أشياء أخرى للدولة. وتُعَدّ دائرة عمل الفاعل في جريمة الاختلاس هي ما أوكل إليه أمر إدارته أو جبايته أو صيانته بحكم الوظيفة، وإلا لكنّا أمام جريمة السرقة. وكذلك يتمثل الركن المفترض لهذه الجريمة في صفة الفاعل وأن يكون موظفا أو من بحكمه.
أما جريمة استثمار الوظيفة، فقد نصت على صورها المادة ٣٦٣ من قانون العقوبات في فقراتها الخمس وفقا لما يلي:
1. قيام من أوكل إليه بيع، أو شراء، أو إدارة أموال منقولة، أو غير منقولة لحساب الدولة، أو لحساب إدارة، أو مؤسسة عامة، أو بلدية، أو هيئة عامة، أو مؤسسة ذات منفعة عامة، أو تملك الدولة قسما من أسهمها باقتراف الغش في أحد هذه الأعمال، أو مخالفة الأحكام التي تسري عليها إما لجر مغنم ذاتي أو مراعاة لفريق إضرارا بالفريق الآخر أو إضرارا بالمصلحة العامة أو الأموال العمومية، أو بارتكاب الخطأ الفادح والجسيم.
ويتعلّق الشكل الأول أو الصورة الأولى بالغش في بيع أموال منقولة أو غير منقولة تخص شخصاً معنوياً عاماً من قبل شخص مخول قانونا (أي ركن الموظف أو من كان بحكمه) أو شراء هذه الأموال أو إدارتها.
2. قيام من ارتبط، في حالة السلم، بعقد تعهد أعمال، أو أشغال عامة، أو نقل، أو استصناع، أو صيانة، أو تصليحات، أو تقديم خدمات، أو لوازم، أو تموين مع إحدى الجهات المبينة في الفقرة السابقة سواء كان العقد نتيجة مناقصة على أساس دفتر شروط أو بطريقة التراضي أو بأي طريقة أخرى فلجأ إلى ضروب المماطلة المقصودة أو الحيلة لعرقلة التنفيذ أو إطالة المدة بقصد الإضرار بمشاريع الدولة أو جرا لنفع أو لغير، أو اقترف الغش في نوع المواد المستعملة أو المقدمة أو في تركيبها أو صنعها أو مواصفاتها الجوهرية.
ويتعلق الشكل الثاني أو الصورة الثانية بقيام ملتزم صفقة عمومية مع شخص من أشخاص القانون العام بعرقلة التنفيذ أو إطالة مدة التنفيذ أو اقترف الغش في نوع المواد المستعملة أو المقدمة أو في تركيبها أو صنعها أو مواصفاتها الجوهرية عن طريق المماطلة المقصودة أو الحيلة… ويتعلق هذا الشكل بالجرائم المرتبطة بتنفيذ العقود.
3. اتفاق المتعهدين بالتواطؤ فيما بينهم لإفساد عملية التلزيم أو لحصر الالتزام بواحد منهم إضرارا بالجهة الرسمية المتعاقدة. ويتعلق الشكل الثالث أو الصورة الثالثة بجرائم التواطؤ المعرف عنها في المادة الثانية، الفقرة ٢٩ من قانون الشراء العام.
4. قيام الموظف المنوط به الإشراف على المناقصة، أو التكليف بالتراضي، أو بأية طريقة أخرى، أو مراقبة مراحل التنفيذ، أو استلام الأشغال بعد إنجازها بأعمال من شأنها مراعاة فريق على آخر في التلزيم أو التكليف أو إذا هو تغاضى عن ضبط المخالفة أو أهمل المراقبة أو لم يتخذ بحق المخالف التدابير التي تنص عليها القوانين المختصة. ويتعلق الشكل الرابع أو الصورة الرابعة بالإخلال بموجبات موظف الشراء العام إن لناحية مراقبة التنفيذ وإن لناحية المحاباة خلال إجراءات التلزيم.
5. قيام المتعهد أو الوسيط أو أي شخص آخر بتقدم نتيجة مناقصة أو تكليف بالتراضي أو بأية طريقة أخرى مواد فاسدة أو غير صالحة للإدارات والمؤسسات العامة والبلديات، ويعتبر الموظف أو المستخدم الذي قبل أو استلم هذه المواد شريكا بالجرم. ويتعلق الشكل الخامس أو الصورة الخامسة بجرائم التنفيذ لناحية تسليم مواد فاسدة أو غير صالحة، لا مجرد مخالفة للمواصفات كما في الشكل الثاني.
الصفقات العمومية ميدان الفساد الأوسع. ويتبين لنا بوضوح من العرض السابق لأهم جرائم الفساد المسماة في القانون اللبناني، ولا سيما قانون العقوبات، أن مجال الصفقات العمومية هو الميدان الأوسع لحصول هذه الجرائم. فجريمة الرشوة هي جريمة لموظف في الشراء العام بمقابل يُتَّخَذ لقاء قرارات تفيد أحد العارضين أو الملتزمين. وتتعلق جريمة صرف النفوذ في مجال المشتريات العمومية بمن يستعمل بمقابل مادي أو معنوي نفوذه للتأثير في عملية الشراء وإجراءاته لأخذها في اتجاه نتيجة معينة. وينطبق ذلك عادة على من هم في موقع القرار ويعتبرون لجان التلزيم المستقلة في عملها أداة بين أيديهم للتحكم في مسار المناقصات. وتنطبق جريمة الاختلاس، كما عرفتها المادة ٣٥٩ من قانون العقوبات، على الموظف العام الذي يختلس ما أوكِل إليه أمر إدارته كما على موظف حفظ المشتريات وإدارة المخازن أو محتسبي المواد في اختلاسهم ما هو في عهدتهم.
أما المادة ٣٦٣ من قانون العقوبات بركائزها الخمس، فتتعلق بالشراء العام والصفقات العمومية. فهي تتعلق في فقرتها الأولى بالغش في عمليات البيع والشراء، والمؤشرات هنا لا تحصى من عدم وضع قيمة تقديرية إلى تخفيض الإعلان إلى إفشاء الأسرار وعدم حفظ أمن العروض. وهي تتعلق في فقرتها الثانية بالمماطلة في التنفيذ والغش في المواد فتسلم من نوعيات ومواصفات مخالفة للنوعيات والمواصفات المذكورة في دفاتر الشروط والتي يسدد ثمنها على أنها كذلك من الخزينة العامة. أما في الفقرة الثالثة، فهي تتعلق بتواطؤ العارضين على حساب نوعية اللوازم أو الأشغال أو الخدمات والمال العام، بينما تتعلق في الفقرتين الرابعة والخامسة بمخالفة موجبات التنفيذ المرتكز إلى نصوص قانونية واردة بشكل رئيس في قانون الشراء العام كما مخالفة مبدأ حسن النية.
توضح هذه الورقة حالات الفساد، وتضيء على كيفية تأمين قانون العقوبات الحماية الجنائية لقانون الشراء العام. وتبقى العبرة في تطبيق نصوص قانون العقوبات التي كملها قانون الشراء العام في المادة ١١٢ منه.
فريق عمل المعهد اللبناني لدراسات السوق