فائض حقيقيّ في ميزان المدفوعات برغم الأزمات

ميزان المدفوعات

شكّل العجز المتمادي في ميزان المدفوعات تحديًا جديًا للبنان على مدار الأعوام الماضية. وقد بلغ العجز التراكمي منذ العام 2011 إلى 2022، حوالى 38 مليار دولار، مدفوعًا بعجز غير طبيعي سجّله العام الأول على الانهيار وصل إلى 10.5 مليار دولار. التراجع الدراماتيكي هذا، ما لبث أن تحوّل بـ”سحر ساحر” إلى فائض في العام 2023، واستمرّ إيجابيًا في الأشهر التسعة الأولى من العام الحالي رغم الحرب، وتراجع مختلف مؤشّرات الاقتصاد الكلّي الأساسية.

تشير الأرقام النقدية والمصرفية التي أصدرها مصرف لبنان لشهر أيلول الماضي، إلى فائض إسمي كبير في ميزان المدفوعات خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الحالي، مدفوعًا بشكل أساسي بالفوائض المحقّقة في أشهر الصيف. فسجّل ميزان المدفوعات فائضًا بقيمة 6.5 مليار دولار (6465 مليون دولار على وجه التحديد). وقد مثلت الزيادة في تموز وآب وأيلول 57 في المئة من الفوائض المحقّقة. فسجّل تموز فائضًا بقيمة 1132 مليون دولار، تلاه فائض بقيمة 1271 مليون دولار في آب، وفائض بقيمة 1358 مليون دولار أميركي في أيلول.

أهمية ميزان المدفوعات

تتمثّل أهمّية ميزان المدفوعات في كونه الأداة الأساسية لقياس حجم العملة الصعبة المتدفّقة إلى البلد مقارنة بتلك الخارجة. وتعني النتيجة الايجابية أنّ الدولارات التي دخلت كانت أكبر من تلك التي خرجت، والعكس صحيح. ويؤدّي العجز في ميزان المدفوعات إلى زيادة الضغط على سعر الصرف، والمالية العامة، ويحتّم على الدولة الاقتراض للدفع مقابل وارداتها. وهذا ما يدخلها في ما بعد بأزمات بنيوية قد تضطر معها إلى بيع أصولها للتعويض عن الديون. هذا إن كانت تعتمد نظام سعر الصرف العائم. أمّا في حال اعتماد الدولة نظام سعر الصرف الثابت، فقد تضطر إلى تمويل العجز في ميزان المدفوعات بطرائق ملتوية كاستعمال احتياطيات المصرف المركزي وودائع المصارف. فيتسبب ذلك كله في أزمة نقدية عميقة على غرار ما حصل مع لبنان إبّان الحقبة التي أعقبت الحرب الأهلية.

بين الفائضين الإسمي والحقيقي

انطلاقًا مما تقدّم، فإنّ الفائض المحقّق في ميزان المدفوعات يعتبر أمرًا ايجابيًا ومحببًا عند الاقتصاديين، إلّا أنّ هناك فرقًا كبيرًا بين الفائض الإسمي والفائض الحقيقي. فميزان المدفوعات يتكوّن من ثلاثة عناصر، هي:

– الحساب الجاري.
– الحساب المالي.
– حساب رأس المال.
يقيس “الحساب الجاري” بحسب التعريف، التجارة الدولية (الميزان التجاري: الفرق بين الواردات والصادرات)، وصافي الدخل على الاستثمارات، والمدفوعات المباشرة. ويصف “الحساب المالي” التغيّر في ملكية الدولة للأصول. ويشمل “حساب رأس المال” جميع المعاملات المالية الأخرى، التي لا تؤثّر على الإنتاج الاقتصادي للدولة. بالنسبة إلى لبنان، لطالما شكّل العجز الكبير في الحساب الجاري قاطرة العجز في ميزان المدفوعات. إذ إنّ لبنان يستورد أكثر بخمسة أضعاف ممّا يصدّر. وعلى سبيل الذكر لا الحصر، بلغت الواردات في العام 2023 حوالى 17.5 مليار دولار، مقارنة بصادرات بقيمة 3 مليارات دولار. وعليه، بلغ العجز في ميزان المدفوعات حوالى 14.5 مليار دولار. وعدا لك فإنّ الرقم على مختلف المقاييس يمثّل نحو 66 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي المقدّر بـ 22 مليار دولار.

إذن، ما يحصل في لبنان هو تغيّر إيجابي في الحساب المالي، وكثيرًا ما يكون هذا التغيّر نظريًا أكثر منه فعليًا. بمعنى أنّه لا يتحوّل إلى دولارات فعلية ملموسة تدخل النظام المالي. فالفائض المحقّق في ميزان المدفوعات خلال الأشهر الأولى من العام الحالي يرجع، بحسب تقرير تحليلي لفريق عودة للأبحاث الاقتصادية، إلى ارتفاع صافي الأصول الأجنبية لمصرف لبنان بمقدار 6658 مليون دولار أميركي. وقد نتجت هذه الزيادة الكبيرة بشكل رئيسي عن زيادة قيمة الذهب. في المقابل انخفضت الأصول الأجنبية الصافية للمصارف التجارية بمقدار 193 مليون دولار أميركي. ويعود هذا الانخفاض إلى تسوية العملات الأجنبية للعملاء بموجب التعميم 158. والجدير بالذكر أنّ الانخفاض في صافي الأصول الأجنبية لدى المصارف كان سيكون أعلى نسبيًا بسعر الصرف الثابت، لأنّ التغيّر في سعر الصرف الرسمي من 15000 إلى 89500 يقلّل من التزامات المصارف بالليرة اللبنانية لغير المقيمين عند التعبير عنها بالدولار الأميركي، ويؤدّي في النهاية إلى زيادة صافي الأصول الأجنبية لدى المصار.

الفائض الحقيقي يقارب 1 مليار دولار

مع هذا يخلص فريق الأبحاث الاقتصادية إلى أنّ ميزان المدفوعات سيظلّ يحقّق فائضًا بقيمة تقارب مليار دولار أميركي خلال الأشهر التسعة الأولى من العام، حتّى لو بقي سعر الذهب كما كان عليه في نهاية 2023، واعتُمد سعر الصرف الرسمي. ويقيس الرقم القيمة الحقيقية للتدفّقات الصافية الداخلة إلى لبنان (التدفّقات الداخلة مطروحًا منها التدفقات الخارجة) خلال الفترة. ومن المرجّح أن يكون هذا الفائض قد نتج من تراجع قيمة الواردات السلعية وتراجع التحويلات المالية المباشرة، مقابل زيادة التحويلات المالية الواردة، واستفادة لبنان من إنفاق المغتربين والسياح في الأشهر التي سبقت مطلع أيلول الماضي.

سيولة المصارف “الفريش” ترتفع

ماليًا أيضًا، تبيّن الأرقام انخفاض سيولة البنوك اللبنانية النقدية “فريش” في البنوك الأجنبية، من نحو 4.5 مليار دولار في كانون الأول 2023 إلى نحو 4.3 مليار في أيلول 2024، بانخفاض قارب 200 مليون دولار. وإذا ما أضفنا إلى السيولة الخارجية النقد بالدولار الأميركي في الخزائن المحلية إذ تبلغ قيمته 834 مليون دولار أميركي إلى أيلول 2024، يمكننا الاستنتاج أنّ المصارف اللبنانية تملك سيولة جديدة بقيمة تقارب 5.1 مليار دولار. مع الإشارة إلى أنّ سيولة المصارف اللبنانية في المصارف الأجنبية كانت تبلغ 8 مليارات و389 مليون دولار في بداية الأزمة في تشرين الأول 2019. وهذا يعني أنّ السيولة النقدية بين أيدي المصارف عادت لتعادل 63 في المئة ممّا كانت عليه قبل الانهيار. وتثير هذه الأرقام شهية المصارف على العودة إلى العمل المصرفي الطبيعي من خلال الإقراض. إلّا أنّ هذه العملية الفائقة الأهمية في الظروف التي يمرّ بها لبنان بعد الحرب، تتطلّب إقرار قانون يضمن إعادة الأموال بالمبالغ التي أقرضت بها. وذلك لضمان عدم ضياعها من جديد إذا انخفض سعر الصرف، وفي ظلّ وجود قانون يمنح الليرة اللبنانية قوة إبراء كبيرة.

الأرقام المحقّقة، على قلّتها، تظهر من الجهة الأخرى إمكانية تعافي الاقتصاد اللبناني في حال تحقيق الإصلاحات المطلوبة. فإذا استطاع الاقتصاد تحقيق فائض في ميزان المدفوعات في ظلّ الحرب، فمن المؤكد أنّه قادر على تحقيق أرقام أكبر في زمن السلم. إلّا أنّ هذا الأمر لا يتطلّب تغييرات بنيوية في بنية الاقتصادي فحسب، إنّما أيضًا في عقلية المجتمع القائم على الريع والاستهلاك بشكل أساسي.

اضغط هنا لقراءة المقال على موقع الصفا نيوز