انهيار المالية العامة: الشفافية باب الخروج الآمن من المأزق

انهيار المالية العامة: الشفافية باب الخروج الآمن من المأزق
عندما تنفصل ملكية المال عن إدارته توضع لذلك قواعد وضوابط يفترض أن تحكم التصرف بهذا المال وتداوله، بهدف حفظه وحمايته من أي ضرر يمكن أن يلحق به، نتيجة الخطأ أو الغش أو الانحراف؛ وللتحقق من ذلك لا بد من تقديم حسابات وبيانات ختامية حول النتائج المالية للنشاط خلال الدورة المنتهية والوضع المالي كما هو في نهايتها، بما يسمح بتقدير الملاءة وإمكانية الاستمرار، فكيف عندما يكون المال عاماً تعود ملكيته للشعب الذي انتخب نواباً انتدبوا وزيراً للمالية يدير المال العام عنهم ولمصلحتهم؟

الجواب يأتي من الدستور الذي نص على إنشاء ديوان المحاسبة، وأوجب تقديم حسابات المالية العامة إليه مع نتائج تنفيذ موازناتها، سنوياً، ليتولى تدقيقها ووضع ملاحظاته حول مدى التزام الحكومة بسقوف الإنفاق المسموح به ومدى تحقيق الإيرادات المفترض أن تغطيها، ومدى الانحراف في كليهما، وذلك لكي تأخذها السلطة التشريعية بعين الاعتبار في إقرار موازنة جديدة يؤذن فيها للحكومة بتنفيذها.
ماذا لو لم يتم إعداد أو تقديم حسابات المالية العامة الختامية و/أو لم يتم تدقيقها لبيان مدى صحتها ووضع الملاحظات عليها لتبني السلطة التشريعية قرارها بشأن مشروع قانون الموازنة العامة المعروض عليها، استناداً إلى تلك النتائج والملاحظات؟

مخاطر عدم تقديم الحسابات السنوية في مواعيدها ومرور الزمن على جرائم الفساد المرتكبة
 
إن عدم إعداد حسابات المالية العامة، ولو بسبب ظروف استثنائية، يعني حرمان السلطة التشريعية من أهم العناصر الأساسية والضرورية، التي تستند إليها لاتخاذ القرار بشأن مشروع الموازنة المطروح عليها، فيتعذر عليها استقراء اتجاهات المالية العامة والحكم على مدى صوابية توجهات الحكومة في الإنفاق وتغطيته بموارد كافية من الضرائب والرسوم، وكذلك يتعذر عليها التحقق من سلامة التصرف بالمال العام خلال السنة ذات العلاقة. ولا بد لذلك أن يوجب البحث في الظروف التي حالت دون تقديم الحسابات إلى ديوان المحاسبة و/أو عدم تدقيقها ضمن المهل النظامية، وفي حال تفهمها، إعطاء فرصة معقولة لتجاوز الظروف ومعالجة الأسباب وبالنهاية تقديم الحساب النظامية لتعود الأمور إلى الاستقامة في نصابها الصحيح.

 

 

 

إن ما حصل فعلياً في لبنان هو أن التعذر قد استمر وتفاقم التأخّر، وأصبح الاستثناء المتمادي مقبولاً وكأنه هو القاعدة، وبدا أن الأمور تجري بعكس المرتقب. وقد زاد المشكلة تعقيداً «تطوير» النظم المحاسبية في وزارة المالية والانتقال من النظام اليدوي إلى المعلوماتية الممكننة، وتأخّر ديوان المحاسبة في تقييم مخاطر هذه النظم المفترض أن ينطلق منها في أي تدقيق، بهدف وضع برامج التدقيق اللازمة انطلاقاً من نتائج تقييم فعالية ضوابطها وتطبيقاتها ودرجة الأمان والثقة التي يمكن أن توفره، فضلاً عن التحقق من تطابقها في ما بينها ومعالجة الثغرات التي كانت ما تزال تكتشف حتى الأمس القريب؛

يضاف إلى كل ذلك إشراك المصارف وغيرها من مؤسسات القطاع الخاص في مساندة أجهزة وزارة المالية والحلول محلها في مهام عديدة؛ وذلك بالتزامن مع استمرار تراجع أداء وزارة المالية ، التي بعدما كانت تتأخر في تقديم حساباتها إلى ديوان المحاسبة باتت عاجزة حتى عن إعداد هذه الحسابات، لا بل عن فتح صناديق الخزينة لقبض واستيفاء الضرائب والرسوم المتوجبة على المكلفين بعد عقود من الإنفاق على مشاريع تطوير وزارة المالية وإعادة هيكلتها، وإهمال ملء الشواغر فيها، وبعد دخول القطاع الخاص من خلال المصارف وشركات الأموال إلى دورة تحصيل الضرائب والرسوم من خلال شبكة واسعة من الشركات والفروع التي ما زالت تتمدد على جميع الأراضي اللبنانية، وليس في علمنا أنه جرى تقييم مخاطر هذا الاتساع وخلفياته وجدواه وطرق الوقاية من مخاطره.

إن مقاربة تعقيدات واقع المالية العامة وحساباتها ومدى فعالية وجديّة الرقابة عليها، والبحث في الظروف المحيطة بها، وفي الأسباب والعوامل التي أدّت إليها وساهمت في تفاقم مخاطرها، يطرح السؤال حول أسباب وظروف وخلفيات هذه التعقيدات، والوسائل الأنجع للخروج من المأزق الذي شكّل التأخّر في إعداد الحسابات المالية العامة وبالتالي في ممارسة الرقابة، السبب المباشر للوقوع فيه: ويقتضي الخروج منه معالجته واستدراك النتائج السلبية لهذا التأخّر.

الفساد الإداري آفة بالغة التأثير في نخر الاقتصاد واستنزاف المالية العامة ومن شأنه أن يؤدي الى إفلاس الخزينة، ومن أفدح مظاهره في لبنان التهرّب الضريبي والجمركي. ومكافحته لا بد من الانطلاق من تكريس الشفافية على مستوى اعداد وإقرار قوانين الموازنة كما على مستوى الإدارة الضريبية والنصوص ذات العلاقة بالإجراءات الضريبية.

أما نتائج الفساد في إدارة شؤون الدولة ومصالح المواطنين فتنعكس نتائجها في الانتقاص من حقوق الدولة أو زيادة في عجز الموازنات والدين العام وأعباء فوائده، وتفرض نتائجه كأمر واقع، فيتحمّل المواطن المكلف بالضريبة تبعات وأعباء تكلفة هذين العجز والدين بالنتيجة، وتلتزم الأجيال القادمة بسداد أقساطه، فيتشكّل بذلك جسر يوصل يد الفساد والفاسدين في السلطة إلى مختلف أشكال الثروة الوطنية وأصول الدولة وأملاكها ومرافقها.

للشفافية الضريبية دور وتأثير كبيرين في تعزيز الثقة بين المكلف بالضريبة والإدارة الضريبية، بحيث تؤدي إلى تحقيق العدالة بين المكلفين، وإلى كسب ثقة المكلف من خلال توفير الضمانات له، كما تطرقنا إلى أثر غياب الشفافية الضريبية على كسب ثقة المكلف وذلك من خلال تناول الأسباب المؤدية إلى هذا الغياب، فيما يساهم غياب في تغليب الفساد الإداري ويتسبب بنقص في مداخيل الدولة.

وللشفافية الضريبية أيضاً علاقة مباشرة بشفافية الموازنة وهي لا تقتصر في هذا المجال على تفصيل وتبرير احتساب أرقام تقديراتها. وهي تستوجب توفير قاعدة معلومات واقعية حول مختلف فئات المكلفين ومستويات أنشطتهم وتطور مستويات هذه الأنشطة.

وحيث أن الإدارة الضريبية هي الجهاز المكلف بتطبيق نصوص التشريع الضريبي، والتحقق من سلامة هذا التطبيق حفاظاً على حقوق الدولة وحقوق المكلفين في آن معاً؛ وتقتضي أهمية دورها أن تتمتع بكفاءة عالية وتكون قادرة غلى تنفيذ القوانين الضريبية بعدالة من خلال عدة أدوات على رأسها الالتزام بالشفافية الضريبية، باعتبارها عاملاً مهماً في رفع كفاءة هذه الإدارة، عن طريق الالتزام بالإفصاح عن المعلومات الضرورية وتبسيط الإجراءات الضريبية سواءً بالنسبة للموظفين، بما يساهم في تحسين أدائهم والمحافظة على الحصيلة الضريبية وحفظ المال العام، أو بالنسبة للمكلفين بالضريبة من أجل كسب ثقتهم ورفع الوعي الضريبي لديهم لزيادة الامتثال الضريبي.

إن الخروج من الواقع الراهن لمالية الدولة الشديد التعقيد يستدعي مباشرة البحث في سبل تعزيز الشفافية ومكافحة الفساد على مختلف مستويات حركة المالية العامة، بدءاً من إعداد موازنة الدولة للعام 2025، وبنائها على أرقام واضحة في احتساباتها وعادلة في تكوينها، والعودة عن الممارسات الخاطئة المرتكبة في إعداد موازنات السنوات الأخيرة، لا سيما بالنسبة إلى احتساب الضرائب وتقدير حجم «الصحون» الضريبية على أسعار صرف مختلفة، «غير رسمية» وغير صريحة، مع بقاء دولار رواتب القطاع العام والمتقاعدين دون هذه الأسعار، برغم التأثير المباشر لهذه الرواتب على مستوى ونوعية أداء هذا القطاع، ومن أهمية تفعيل وتصويب وتطوير هذا القطاع بمختلف مرافقه، لتحفيز النمو خلال المرحلة القادمة، حيث يخشى أن يتكرّس الفساد، الذي استشرى واتسع انتشاره بسبب هذا الإجحاف الذي ساهم في تراجع الرادع الأخلاقي أمام الحاجة لتأمين الحد الأدنى من حاجات الموظف بما يحفظ كرامته كإنسان وجعله، نتيجة الشعور بالظلم، فريسة سهلة لوحش الفساد المستشري في غياب الرقابة وعجز الدولة؛ وربما يكفي التذكير بعجز الدولة عن ضبط توزيع الطابع المالي وتوفيره في السوق، واستعادة المشهد المتكوّن من تداعيات الفوضى المترتبة عن فقدانه إلّا في السوق السوداء، حيث يباع بأضعاف سعره، وكذلك تجاوز كلفة «الوسم» البديل المتاح عبر شركات تحصيل الأموال أضعاف قيمة هذا الرسم في بعض الحالات، يضاف إليها الخوة التي يمكن أن يفرضها موظفون في بعض الإدارات لقبول هذا الوسم، بحيث بات هذا التعسّف يحاكي الرسوم الثابتة في فواتير الكهرباء المدولرة دون كهرباء، ويحاكي كذلك رسوم البريد التي أضيف إليها «بدل تكاليف معالجة»، وبدل اللاصق ومعالجة اللاصق دون لاصق، التي أضيفت إلى رسوم السير، والغرامات على هذه الرسوم عن فترة كانت فيها الدوائر المختصة مقفلة وأنظمة تحصيل الرسوم والضرائب معطّلة، ولم يكن بإمكان المواطن، خلالها، تسديد المتوجب عليه منها، واللائحة تطول.

اضغط هنا لقراءة المقال على موقع جريدة اللواء