لم يشذ مسار “الطابع المالي” في لبنان منذ بدء الانهيار الاقتصادي في العام 2019 عن مسار بقية السلع المدعومة. فمع تراجع الليرة مقابل الدولار، أصبحت كلفة طباعة الطوابع المالية تفوق قيمتها، ما دفع العارضين إلى الإحجام عن التقدم إلى المناقصات. ولم يبق أمام الجهة الشارية، المتمثلة بوزارة المالية، إلا الاستعانة بمطابع الجيش اللبناني لسد النقص في السوق عبر الاتفاق بالتراضي. ومع القدرات المادية المحدودة للجيش، بقي العرض أقل من الطلب، فندرت الطوابع واحتُكرت الكميات القليلة المتوفرة منها، لتباع في السوق السوداء بسعر يفوق بمئة ضعف سعرها الأساسي، حيث بيع طابع الألف ليرة بمئة ألف.
وما زالت هذه الأزمة غير المبررة، كيفما نظرنا إليها، مستمرة حتى اليوم. وقد فوّتت على الاقتصاد، لا خزينة الدولة فحسب، آلاف المليارات من الليرات. فبغض النظر عن أن متوسط إيرادات الطوابع بين العامين 2020 و2022 بلغ حوالي 100 مليار ليرة، تُعتبَر هذه الطوابع ضريبة “تُلصق” بأي معاملة إدارية. وسواء كانت المعاملة عبارة عن إخراج قيد فردي أو شراء عقار بملايين الدولارات، أو تفريغ ورثة، أو تسجيل سيارة، أو الحصول على شهادة تعليمية، أو غيرها مما لا يُعد ولا يُحصى من المعاملات الورقية، فهي لا تمر دون طوابع مالية. وعلى هذا الأساس تراجع عدد المعاملات وخسرت الإدارات العامة إيرادات مهمة، وعلقت النشاطات الاقتصادية وتكلف الأفراد وقطاعات الأعمال أموالا طائلة بدل رشى وسمسرات. وكالعادة ربحت قلة قليلة من المحتكرين مع شركائهم من المسؤولين، حيث قدّر ديوان المحاسبة حجم السوق السوداء السنوي للطوابع المالية بـ 20 مليون دولار، يقابلها مردود سنوي للدولة بحوالي 1.8 مليون دولار فقط. ودفع حجم الفساد ديوان المحاسبة إلى إصدار توصيات مثل وقف العمل بالوكالات كافة، ووقف العمل بالرخص المخالفة حالاً، وعدم تصديق أي مناقصة لطباعة الطوابع الورقية، وغيرها.
تعتزم المالية، تماشياً مع توصيات ديوان المحاسبة، إطلاق مناقصة “الطابع الإلكتروني” e-stamp إلى جانب الطابع الورقي بحلول نهاية العام 2024. وبناء على التجارب السابقة في مناقصات مراكز معاينة الآليات والبريد وخدمة OTT والرسائل الإلكترونية وغيرها، فمن المرجح أن يتم حصر التلزيم في النهاية بفائز وحيد. وعليه سيحتكر هذا الفائز آلات إصدار الطوابع الإلكترونية، وسيتحكم ولفترة طويلة بنوعية الخدمة وحجمها والمبالغ التي يسددها للدولة، هذا إن لم يتصرف مثل شركة “إنكريبت” المشغلة لجهاز المعلوماتية في هيئة إدارة السير والآليات والتي تصدر دفاتر السوق ودفاتر سير المركبات واللوحات الآمنة واللاصقات الإلكترونية. فبالإضافة إلى احتكارها للخدمة ورفع أسعارها، توقفت الشركة عن تقديم الخدمة ومنعت الدولة من الوصول إلى البرامج والمعلومات بسبب خلاف حول التسعير خلال العامين الماضيين. وقد انتهى هذا الخلاف مؤخراً لصالح الشركة مادياً ومعنوياً، حيث أوصى ديوان المحاسبة بدفع مستحقاتها بالدولار النقدي ولم يعترض على مشاركتها في المناقصات المستقبلية لإدارة المرفق العام.
ويتطلب الحل الأمثل لأزمة الطوابع أولا إنهاء العمل بالطوابع المالية الورقية بشكل نهائي، ثم فتح المجال أمام عدة عارضين لاستقدام آلات إصدار الطوابع الإلكترونية مقابل رسوم تُدفع للدولة على كل طابع يتم إصداره. وينبغي أن يتنافس العارضون على توزيع هذه الآلات في مختلف المناطق اللبنانية من خلال التعاقد مع المكتبات والمحلات والمراكز التجارية وأصحاب المحال التجارية، على غرار آلات اليانصيب المنتشرة في كل شارع في المدن وكل قرية في لبنان. وبهذه الطريقة، تتحقق مصلحة الجميع، والأهم من ذلك كله أننا نكون قد نقلنا قطاعاً من التخلف والاحتكار إلى التكنولوجيا والمنافسة، مع ما يضيفه ذلك من تحسين الخدمات للمواطنين وتفعيل إيرادات الدولة.
جباية الضرائب بدلا من زيادتها. تعد الضرائب المالية مصدراً هاماً من مصادر الخزينة السيادية، أي تلك التي تفرضها وتجبيها الدولة بإرادتها المنفردة وفقاً للقوانين التي تسنها السلطة التشريعية. وفي ظل الانهيار الاقتصادي الراهن، تبرز أهمية تحصيل هذه الضرائب والرسوم بدلاً من زيادة معدلاتها، نظراً لعدم قدرة الاقتصاد الوطني على تحمل فرض ضرائب أو رسوم جديدة أو زيادة معدلات الرسوم والضرائب القائمة. إذ تؤدي زيادة الضرائب والرسوم عموماً خلال فترات الركود والانكماش الاقتصادي إلى انخفاض حجم الأعمال وبالتالي تراجع إيرادات الضرائب والرسوم حتى مع ارتفاع معدلاتها.
إعداد الطابع المالي. ويشكل رسم الطابع المالي، وهو الرسم الذي تحصله الخزينة على العقود والصكوك والكتابات والمعاملات المنفذة وفقاً لأحكام المرسوم الاشتراعي رقم 67 الصادر في 25-08-1967، أحد أهم هذه الرسوم المالية، بل يعد من أبرز مصادر الإيرادات المالية لخزينة الدولة.
ويمكن سداد هذا الرسم نقداً أو بشيك أو عبر آلات الوسم أو بموجب إشعارات سداد. ومع ذلك، فهو يُسَدَّد في الغالب من خلال إلصاق طوابع مالية على الصكوك والمعاملات. وقد حدد قانون موازنة العام 2022 طريقتين لإعداد الطوابع الورقية اللاصقة:
الأولى: الطباعة الورقية للطوابع المالية وفقاً للكميات المطلوبة وفئاتها وأشكالها.
الثانية: إصدار طوابع مالية إلكترونية (e-stamp) يتم استخراجها من أجهزة خاصة مرخصة، حيث يتم دفع قيمة الطابع الإلكتروني نقداً أو ببطاقة دفع، ويتم طباعة الطابع الإلكتروني باستخدام تقنية رمز الاستجابة السريعة (QR code) على الشريط اللاصق، متضمناً رقماً تسلسلياً وقيمة الطابع وكافة المعلومات المطلوبة. ويتم تحديد إجراءات استخدام الطابع الإلكتروني (e-stamp) وشكل الأجهزة المستخدمة لطباعته ومواصفاتها بموجب قرار يصدر عن وزير المالية.
أزمة الطوابع في لبنان. وقد تفاقمت في الآونة الأخيرة أزمة الطوابع المالية الورقية اللاصقة، وهي أزمة يعاني منها المواطن اللبناني منذ سنوات. فقد أصبحت هذه الطوابع نادرة في السوق وبات من المستحيل الحصول عليها من الباعة المرخصين بسعرها الرسمي أو من أمناء الصناديق أو من المؤسسات المتعاقدة مع الدولة اللبنانية لتحصيل الضرائب والرسوم. كما أصبح الحصول عليها مقتصراً على السوق السوداء وبأسعار خيالية.
تقرير لديوان المحاسبة عن أزمة الطوابع. وإزاء هذا الواقع، أصدر ديوان المحاسبة تقريراً خاصاً حمل الرقم ٢/٢٠٢٤ تاريخ ٢٥-٤-٢٠٢٤ بالاستناد إلى أحكام المادة ٥٢ من قانون تنظيمه الصادر بالمرسوم الاشتراعي رقم ٨٢/٨٣.
وقد تم إبلاغ هذا التقرير إلى رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النواب ورئاسة مجلس الوزراء ووزارة المالية، كما نشرت بعض وسائل الإعلام محتواه. وقد استند ديوان المحاسبة في تقريره إلى نص المادة 106 من قانون الإجراءات الضريبية، ومفادها أن تتم ملاحقة المخالفات المالية الجزائية وفقاً لأحكام المرسوم الاشتراعي رقم 156 الصادر في 16-9-1983 وتعديلاته، وتُفرض العقوبات المترتبة عليها من قبل المحاكم بناءً على طلب وزير المالية دون الحاجة إلى إخطار مسبق للمكلف لتصحيح تصريحه. كما أشار التقرير إلى نص المادة 3 من المرسوم الاشتراعي رقم 156/83، والتي تنص على أن تتم الملاحقة الجزائية إما تلقائياً من قبل النيابة العامة المالية أو بناءً على طلب مدير المالية العام، وينقطع مرور الزمن بمجرد بدء الملاحقة. وقد أكد الديوان في تقريره على مخالفة بيع الطوابع المالية دون ترخيص استناداً إلى المادة 139 من قانون الإجراءات الضريبية.
ويتألف تقرير ديوان المحاسبة من ٦٩ صفحة موزعة على ٣ أجزاء:
الأول يتناول التنظيم القانوني لمرفق الطوابع المالية في لبنان لجهة الصلاحيات والمسؤوليات والمفاعيل القانونية لمخالفة النصوص
الثاني يتضمن دور ديوان المحاسبة الرقابي على مرفق الطوابع المالية ورقابته على صفقات التلزيم ومتابعته أزمة فقدان الطوابع المالية
الثالث يتحدث عن التجاوزات ونتائجها ليخلص إلى التوصيات.
وقد انطلق ديوان المحاسبة من أن الغاية التي توخاها المشرّع من إقرار مبدأ إجازة بيع الطوابع المالية وتحديد شروط الترخيص باستخدام هذه الإجازة تكمن في توفير الطريقة المثلى لتحقيق واردات للخزينة العامة عبر تيسير حصول المواطن على هذه الطوابع لإنجاز معاملاته الرسمية. ومن منطلق حرصه على مواكبة أزمة فقدان الطوابع المالية لما لها من تأثير على المال العام والاقتصاد المالي، واستنادا إلى الأحكام القانونية التي ترعى الصلاحيات والمسؤوليات وتطبيقها في نطاق مرفق الطوابع المالية كما الأحكام التي ترعى حالات مخالفة النصوص الراعية لهذا المرفق المهم، عرض ديوان المحاسبة في تقريره لأهم التوصيات والاقتراحات الملائمة بهدف تحسين الأداء.
تواطؤ يستدعي تدخل القضاء المختص. وقد خلص التقرير إلى احتمال وجود تواطؤ بين الموظفين المعنيين وبعض المرخص لهم، ما أدى إلى احتكار الطوابع المالية. ويستدعي ذلك إجراء تحقيق من قبل الجهات القضائية المختصة، باعتبار أن هذه الأفعال، في حال ثبوتها، تندرج ضمن الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات الصادر في العام 1943.
وقد أوصى ديوان المحاسبة بما يلي:
١- وقف العمل بالوكالات كافة.
٢- وقف العمل بالرخص المخالفة حالاً.
٣- ملاحقة المرخص لهم الذين خالفوا القانون جزائياً.
٤- إحالة الموظفين المخالفين إلى القضاء وإيقافهم عن العمل.
٥- إنهاء الاتفاق الرضائي مع مديرية الشؤون الجغرافية في الجيش لجهة طباعة ما تبقى من طوابع ورقية وخلال مهلة لا تتجاوز الثلاثة أشهر.
٦- استرداد جميع آلات الوسم وصيانتها ووضعها في الخدمة بمهلة لا تتجاوز الشهر.
٧- الاستيفاء النقدي لما يتجاوز 500,000 ليرة لبنانية من قيمة الطوابع نقداً.
٨- عدم تصديق أي مناقصة لطباعة الطوابع الورقية.
٩- استرداد الضريبة من المكتومين ضريبياً وبمفعول رجعي.
مناقصة الطابع الالكتروني. كما خلص ديوان المحاسبة في تقريره إلى ضرورة الإعلان عن مناقصة لتلزيم الطابع الإلكتروني لتفادي سوق سوداء يبلغ حجمها السنوي ٢٠ مليون دولار مقابل مردود سنوي للدولة لا يتعدى ١.٨ مليون دولار.
ويكمن الهدف من المشاريع المماثلة التي تم تنفيذها في العديد من البلدان في الاستغناء عن الحاجة إلى ورق خاص أو طوابع ورقية. فالتقنيات المستخدمة في إصدار الطابع الإلكتروني (e-stamp) والآليات التي ينبغي اعتمادها، إذا ما تم تحديدها بشكل صحيح والالتزام بها، كفيلة بضمان موثوقية الطابع وعدم تزويره، بالإضافة إلى إمكانية متابعة عمليات البيع والإصدار والاستخدام وتتبعها بجميع جوانبها. لذا، فمن الضروري إطلاق مناقصة للطوابع الإلكترونية من خلال دفتر شروط خالٍ من العيوب يضمن إمكانية شراء الطابع عبر موقع إلكتروني (أو تطبيق) محدد من قبل وزارة المالية وبطريقة دفع يختارها المكلف. كما ينبغي أن يصدر الموقع أو التطبيق الطابع مع جميع وسائل الحماية المطلوبة من رقم تسلسلي فريد أو معرف وتشفير ورمز استجابة سريعة (QR) مشفر، مع توثيق العملية وحفظها بطبيعة الحال.
وتُعتبَر مركزية إصدار الطابع الإلكتروني (e-stamp) واستخدام تقنيات التشفير والأتمتة (لتقليل مخاطر التدخل البشري) والرموز، سواء فيما يتعلق بالأرقام التسلسلية أو المعرفات، ومتابعتها وضبطها وتدقيقها المستمر (إلكترونياً أيضاً) ورموز الاستجابة السريعة المشفرة، كلها عوامل وضوابط كفيلة بتقليل المخاطر وتحقيق نسبة عالية من الحماية والموثوقية وعدم التزوير في إصدار الطابع واستخدامه. كما توفر هذه التقنيات معلومات مهمة للغاية حول وجهة استخدام الطابع والجهة المستخدمة والتواريخ وأي معلومات إضافية يمكن التحقق منها. ولعلّ الأهم من ذلك هو توفير جميع هذه المواصفات مع سهولة حصول المواطن على الطابع دون أي احتكار أو عوائق، وضمان الإيرادات بشكلها الصحيح والمستدام للخزينة، فضلاً عن توفير معلومات مفصلة للمتابعة والتقييم وإعداد الدراسات المبنية على أرقام فعلية.
الخلاصة. سيبين إطلاق هذه المناقصة المنتظر مدى جدية الحكومة في معالجة أزمة الطوابع المالية وتحديث النظام الضريبي بما يتماشى مع متطلبات العصر الرقمي، ويضمن في الوقت نفسه حماية المال العام وتيسير المعاملات على المواطنين. توصي هذه الورقة بفتح الطوابع الالكترونية على المنافسة والسماح لتعدد مقدمي هذه الخدمة بشكل يمنع احتكار الطوابع الالكترونية مستقبلا كما يحصل مع الطوابع الورقية اليوم. ويبقى الأمل معقوداً على أن تكون هذه الخطوة بداية لإصلاح شامل في القطاع المالي والإداري يعيد الثقة بين المواطن والدولة ويسهم في إنعاش الاقتصاد الوطني في هذه الظروف الصعبة التي يمر بها لبنان.
فريق المعهد اللبناني لدراسات السوق